القيامة؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه، وتكذيب لوجوده، كما قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ﴾ [سبأ: ٢٩، ٣٠].
وقال تعالى ها هنا: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ) قال أبو عمرو بن العلاء: (بَرِقَ) بكسر الراء، أي: حار. وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى: ﴿لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤٣]، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا، لا يستقر لهم بصر على شيء؛ من شدة الرعب.
وقرأ آخرون: "بَرَقَ" بالفتح، وهو قريب في المعنى من الأول. والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور.
وقوله: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي: ذهب ضوءه.
(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال مجاهد: كُوّرا. وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التكوير: ١، ٢] ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأ: "وجُمع بين الشمس والقمر".
وقوله: (يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي: إذا عاين ابنُ آدم هذه الأهوال يوم القيامة، حينئذ يريد أن يفر ويقول: أين المفر؟ أي: هل من ملجأ أو موئل؟ قال الله تعالى: (كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) قال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف: أي لا نجاة.
وهذه كقوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ [الشورى: ٤٧] أي: ليس لكم مكان تتنكرون فيه، وكذا قال هاهنا (لا وَزَرَ) أي: ليس لكم مكان تعتصمون فيه؛ ولهذا قال: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي: المرجع والمصير.
ثم قال تعالى: (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي: يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩] وهكذا قال هاهنا: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) أي: هو شهيد على نفسه، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤].
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يقول: سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه.
وقال قتادة: شاهد على نفسه. وفي رواية قال: إذا شئت -والله-رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه، وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوبا: يا ابن آدم، تُبصر القَذَاة في عين أخيك، وتترك الجِذْل (١) في عينك لا تبصره.
(١) في م: "وتترك الجذع".