للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر -أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه -أن يصوم لا محالة. ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم، كما تقدم بيانه. ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار، بشرط القضاء فقال: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) معناه: ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه، أو يؤذيه (١) أو كان على سفر أي في حال سفر -فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام؛ ولهذا قال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي: إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم.

وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية:

إحداها: أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه، لقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى، عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر، والله أعلم. فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار (٢) حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر. أخرجه صاحبا الصحيح (٣).

الثانية: ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر، لقوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) والصحيح قول الجمهور، أن الأمر في ذلك على التخيير، وليس بحَتْم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله في شهر رمضان. قال: "فَمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائمُ على المفطر، ولا المفطر على الصائم (٤) ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم (٥) الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] (٦) خرجنا مع رسول الله [في شهر رمضان] (٧) في حَرٍّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [من شدة الحر] (٨) وما فينا صائم إلا رسولُ الله وعبد الله بن رواحة (٩).

الثالثة: قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار، لفعل النبي كما تقدم، وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل، أخذا بالرخصة، ولما ثبت عن رسول الله : أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: "من أفطر فحَسَن، ومن صام فلا جناح عليه" (١٠). وقال في حديث آخر:


(١) في جـ: "أو يمتد به".
(٢) في أ، و: "فصام".
(٣) صحيح البخاري برقم (١٩٤٨، ٤٢٧٩) وصحيح مسلم برقم (١١١٣).
(٤) رواه مسلم في صحيحه برقم (١١١٨) من حديث أنس .
(٥) في أ: "عليهم في الصيام".
(٦) زيادة من و.
(٧) زيادة من جـ، أ، و.
(٨) زيادة من جـ، أ، و.
(٩) صحيح البخاري برقم (١٩٤٥) وصحيح مسلم برقم (١١٢٢).
(١٠) هذا لفظ حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في صحيح مسلم برقم (١١٢١).