ولا يغترن إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلا، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعا، فما وافق منها عقله قبله واتخذه دينا، وما خالفه منها لوى به لسانه وحرفه عن موضعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا -ثقة بعقله- واطمئنانا إلى القواعد التي أصلها بتفكيره واتهاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تحديدا لمهمة رسالته وتضييقا لدائرة ما يجب اتباعه فيه واتهاما لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا.
فإن في ذلك قلبا للحقائق، وإهدارا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على أصولها؛ إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيات أو الضروريات، فأي عقل يجعل أصلا يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلا.
أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الاستواء والصفقات وتحريفها عن موضعها وفي القول بالجبر.
أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟
أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة على الأعمال.