خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها، وصحّت العقول العليلة، حتى تركت الأصنام؛ بل كسرت، وأخذ الجو يرتج بأصوات التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواز الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالا وجنوبا، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام الله.
وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الله، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد الله، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب الله عنهم عيّبّة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب.
وهكذا تحققت- بفضل هذه الدعوة- الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية والعدالة الإجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلها الآخروية، فتقلب مجرى الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، وتبدلت العقلية.
إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية- قبل الدعوة- ويتعفن ضميره، وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوسا جامدة لا حياة فيها ولا روح.
فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية؛ خلصت روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والإنحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والإنهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان، وقامت ببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب؛ لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة «١» .
وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها.
(١) من كلمة سيد قطب في مقدمة ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص ١٤.