للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[نجاح الدعوة وأثرها]

وقبل أن نتقدم خطوة أخرى إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكة حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين، حتى توج الله هامته بسيادة الأولين والآخرين.

إنه صلى الله عليه وسلم قيل له: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا الآيات. ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.

قُمْ فَأَنْذِرْ الآيات، فقام، وظل قائما أكثر من عشرين عاما، يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.

حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، والمكبل بأوهان الشهوات وأغلالها، حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخرى في ميدان آخر، بل معارك متلاحقة.. مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها، وعلى المؤمنين بها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة، وفروعها في الفضاء، وتظل مساحات أخرى.. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية؛ حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية.

وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى- معركة الضمير- قد انتهت، فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني، ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة الله هناك، وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيا مقبلة عليه، وفي جهد وكد، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة؛ وفي نصب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه، وترتيل لقرآنه، وتبتل إليه كما أمره أن يفعل «١» .

وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما، لا يلهيه شأن في


(١) كلمة سيد قطب في ظلال القرآن ٢٩/ ١٦٨، ١٦٩.

<<  <   >  >>