للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره. فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا. فأنزل فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «١» وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه، وهزه، وهو يقول له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها «٢» .

ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الأنتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد.

أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل:

نعم! فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبية ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا، وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» .

كانت هذه الإعتداآت بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ما لشخصيته الفذة من وقار وجلال في نفوس العامة والخاصة، ومع ما له من منعة أبي طالب أعظم رجل محترم في مكة، أما بالنسبة إلى المسلمين- ولا سيما الضعفاء منهم- فإن الإجراآت كانت أقسى من ذلك وأمر، ففي نفس الوقت قامت كل قبيلة تعذب من دان منها بالإسلام أنواعا من التعذيب، ومن لم يكن له قبيلة فأجرت عليهم الأوباش والسادات ألوانا من الإضطهاد، يفزع من ذكرها قلب الحليم.

كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به «٤» .

وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته «٥» .

ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشا، فتخشف جلده تخشف الحية «٦» .

وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه، وكان أمية


(١) نفس المصدر ٣٠/ ٢٠٨.
(٢) نفس المصدر ٢٩/ ٣١٢.
(٣) رواه مسلم في صحيحه.
(٤) ابن هشام ١/ ٣٢٠.
(٥) رحمة للعالمين (١/ ٥٧.
(٦) نفس المصدر ١/ ٥٨، وتلقيح فهوم أهل الأثر ص ٦٠.

<<  <   >  >>