للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ليس بوجه كذاب، فأول ما سمعته يقول: «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (١) قال: أشرقت المدينة بقدومه - صلى الله عليه وسلم - وسرى السرور إلى القلوب بحلوله بها.

وعن أنس بن مالك قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول لله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء.

قال البراء بن عازب: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وسنذكر كم كان له باب في زمانه، وكم كان طوله وعرضه وارتفاعه، وغيره إن شاء الله تعالى.

وأنزل الله تعالى في مشاورة قريش في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ? [الأنفال: ٣٠] والمكر: التدبير، والمعنى: ويدبرون ويدبر الله خير المدبرين (٢) .


(١) الحديث رواه الترمذي في سننه (٤/٦٥٢، رقم ٢٤٨٥) عن عبد الله بن سلام، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
والحديث عند: ابن ماجه في سننه (١/٤٢٣، رقم ١٣٣٤) ، وأحمد في مسنده (٥/٤٥١، رقم ٢٣٨٣٥) ، والحاكم في المستدرك (٣/١٤، رقم ٤٢٨٢) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن أبي شيبة في المصنف (٧/٢٥٧، رقم ٣٥٨٤٧) ، والدارمي في سننه (١/٤٠٥، رقم ١٤٦٠) ، والطبراني في المعجم الأوسط (٥/٣١٣، رقم ٥٤١٠) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص: ١٧٩، رقم ٤٩٦) ، والقضاعي في مسند الشهاب (١/٤١٨، رقم ٧١٩) ، وابن قانع في معجم الصحابة (٢/١٣٢) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١/٢٣٥) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (٩/٤٣٣، رقم ٤٠٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٢/٥٠٢، رقم ٤٤٢٢) وفي شعب الإيمان (٦/٤٢٤، رقم ٨٧٤٩) .
(٢) إلى هنا انتهى السفيري من شرح هذا الحديث، ولم يتعرض بالشرح لقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» وحتى يتم المعنى وتعم الفائدة نستكمل الشرح من فتح الباري ففيه من الفوائد التي لا غنى عنها في هذا المقام.
يقول ابن حجر: قوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدنيا والمرأة، فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله: «إلى ما هاجر إليه» متعلقاً بالهجرة، فيكون الخبر محذوفاً والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلاً، ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت، انتهي.
وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقاً، وليس كذلك، إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر، وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف.
ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك. فأسلم فتزوجته.
وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم.
واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر، وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصاً لم يضمره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره. والله أعلم.
واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه العمل يكون منتفياً إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد.
وعلى أن من صام تطوعاً بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث، لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر.
ونظيره حديث: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها» أي: أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى، وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه، ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافاً لمن أعل بذلك، لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة.
واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه، ومن أمثلة ذلك: جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة.
ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطاً لأعلمهم به، واستدل به على أن العمل إذا كان مضافاً إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث: أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة -وشك في سببها- أجزأه إخراجها بغير تعيين. وفيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدنيا القصة زيادة في التحذير والتنفير.
وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصاً، فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

<<  <  ج: ص:  >  >>