فإن الخلاء بالمد الخلوة وهو شأن الصالحين وعباد الله العارفين، وإنما حبب إليه الخلوة لأن فيها فراغ القلب وهي معينة على الفكر، وينقطع بها عن مألوفات البشر ويخشع قلبه، فإن البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة فلطف الله تعالى به في بدء أمره، فحبب إليه الخلوة وقطعه عن مخالطة البشر، ليجد الوحي له متمكناً كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وكان دخوله الخلوة بإلهام من الله تعالى لا من تلقاء نفسه، قال بعض أهل العلم: ففيه دليل على أن الإنسان إذا قصد الخلوة والانقطاع عن الناس فلابد له من إذن شيخه له في ذلك، وقد صرح بذلك العارف بالله الزاهد الكامل زين الدين أبو بكر الحراني الخراساني نفعنا الله به في وصيته لأصحابه حيث قال فيها ما معناه: من قصد سلوك طريق الأولياء وقصد الانقطاع والتبتل في الخلوة وترك الاختلاط فلا بد أن يكون ذلك بحضور الشيخ، وأمره الظاهر وأمره الباطن فإن المريد إذا صحت رابطتة مع شيخة وكان مسلماً لأوامره وإشاراته يرى شيخة في واقعته فيأمره وينهاه ويحل واقعته، ثم قال في وصيته: ولا ينبغي لمن أراد دخول الخلوة أن يقصد بدخوله أن يصير مكاشفاً أو ذا كرامة عيانية فإن من رحل على هذا القصد رأى الأشياء الباطلة في صورة الحق.
ثم قال: دخل واحد من أصحابنا في خراسان الخلوة بغير إذن ولا وقت استحقاق دخولها، فجاء الشيطان إليه على صورة الخضر فقال له: أتريد أن تحصل لك العلوم الدينية فقال: نعم وكان مائلاً أن يتكلم في العلوم وأن يجري على لسانه، فقال له: افتح فاك فرمى الشيطان بزاقة في فمه، ثم بعد ذلك صنف كتاباً مشتملاً على أبواب من المعارف فلما وصل إلى الملاقاة والاجتماع بي عرض ما صنفه علي وحكى واقعته فقلت له: يا مسكين ذلك أن الشيطان جاء إليك في صورة الخضر ولعب بك وشغلك عن طاعة الله وذكره، إذهب واغتسل وتب إلى الله.
والشيطان يجيىء على صورة الصالحين كثيراً ولا يقدم على التمثيل بصورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بصورة الشيخ إذا كان الشيخ تابعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - مأذوناً له بالإرشاد من شيخة المأذون وهكذا إلى حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.