للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم قالت عائشة: «فكان يخلو بغار حراء» الغار: نقب في الجبل وهو قريب من معنى الكهف، ويجمع الغار على غيران وحراء بكسر الحاء وتخفيف الراء جبل بينه وبين مكة شرفها الله تعالى نحو ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى من شرفها الله، وفي «حراء وقباء» ست لغات المد والقصر والصرف وعدمه والتذكير والتأنيث، وقد نظم بعضهم ذلك فقال:

قباء وحراء اذكروا أنثهما معاً ... ومد واقصر واصرفن وامنع الصرفا

فمن صرف أراد أن اللفظ علم للمكان ونحوه، فيكون فيه االعلمية فقط، وهي وحدها لا تمنع الصرف، ومن منع الصرف أراد اللفظ علم للبقعة، فيكون فيه علتان العلمية والتأنيث، وكذا كل اسم مكان إن جعلت اللفظ علماً للبقعة أو الجهة فهو غير منصرف، وإن جعلته علماً للمكان ونحوه فهو منصرف فهي قاعدة كلية نبه عليها الكرماني وغيره.

«فيتحنث فيه وهو التعبد (١)

الليالي ذات العدد» مرادها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كان يخلو بغار حراء يتحنث أي يتعبد، ويتحنث بمعنى يتعبد، وإن تعبده كان في ليال معدودة في كل سنة فضمير «وهو التعبد» راجع إلى التحنث الذي دل عليه لفظ «فيتحنث» فهو كقوله تعالى ?اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة: ٨] فتفسير التحنث بالتعبد إما من كلام عائشة وهو الظاهر، وإما من كلام الزهري في الحديث على عادته.

وحقيقة التحنث في الأصل التجنب عن الحنث أي: الإثم فكان المتعبد يلقي الإثم عن نفسه بالعبادة.

والمراد بقوله: «الليالي ذوات العدد» مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، وكانت هذه الليالي التي يعبد فيها مع أيامها إلى شهر رمضان وأيامه في كل سنة.

فائدة: إنما خصص - صلى الله عليه وسلم - جبل حراء بالخلوة والتعبد فيه دون غيره من جبال مكة


(١) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (١/٧١) : قوله: «فيتحنث» هي بمعنى يتحنف، أي يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم. وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة «يتحنف» بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما.
قوله: «وهو التعبد» هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله. نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج.

<<  <  ج: ص:  >  >>