أبكي لغربته وصغر سنه ثم قلت: ألك حاجة؟ قال: نعم، قلت: وما هي؟ قال: إذا كان في غد تصل إلى هاهنا عند الضحى تجدني ميتاً، فتغسلني وتحفر قبري ولا تعلم بذلك أحداً، وتكفنني في هذه الجبة التي عليّ بعد ما تفتق جيبها وتخرج ما فيه وتمسكه عندك، فإذا صليت عليّ وواريتني في التراب إذهب إلى هارون الرشيد وادفع له ما تجده في الجيب وتقرئ عليه مني السلام.
شعر في المعنى:
بلغ أمانة من وفيت منيته ... إلى الرشيد فإن الأجر في ذاكا
وقل غريب له شوق لرؤيتكم ... على تمادي الهوى والبعد لباكا
ما صد عنك كره ولا ملك ... لأن قربته في لثم يمناكا
وإنما أبعدتي عنك يا أبتي ... نفس لها عفة من نيل دنياكا
إن فاتني الجمع في دار الدنا بكم ... فإننا نلتقي في يوم أخراكا
قال: فلما كان من الغد وصلت إلى الخيمة عند الضحى فوجدته قد مات رحمه الله، فحفرت قبره بيدي وغسلته ثم فتقت جيبيه فإذا في جيبه ياقوته تساوي آلاف من الدنانير، فقلت: لقد زهد هذا في الدنيا، قال: فدفنته وصرت أرتقب خروج هارون الرشيد إلى أن خرج فتعرضت له في الطريق ورفعت له الياقوته فعرفها فلما رآها خر مغشياً عليه، فأمسك بي خدمته فأفاق، وقال: خلوا عنه فخلى سبيلي فقال بعد ما أخذني إلى قصره وأدخلني بيته: يا أخي ما فعل صاحب هذه الياقوتة؟ فقلت: إنه قد مات فوصفت له حاله فجعل يصيح: انتفع الولد وخاب الوالد، ثم نادى يا فلانة فخرجت امرأة فلما رأتني أرادت أن ترجع فقال لها: ما عليك منه؟ فسلمت ودخلت فرمى لها الياقوتة فصاحت صحية عظيمة وغشي عليها وقالت: يا أمير المؤمنين ما فعل ولدي؟ فقال لي: صف لها حاله فوصفت لها قصته، فجعلت تبكي وتقول وتصيح: ما أشوقني إلى لقائك يا قرة عيني، يا ليتني كنت عندك حتى أسقيك إذ لم تجد ساقياً، وأونسك إذا لم تجد مؤنساً.
شعر:
أبكي غريباً أتاه الموت منفرداً ... لم يلق ألفاً له يبكي الذي وجدا
من بعد عز وشمل كان مجتمعاً ... أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحدا
يبني إلى الناس من الأيام تخلقه ... والرب يبني ما يبقى له أبدا