ومنها: أن الفأرة تدخل ذنبها في قارورة الدهن إن كان رأسها ضيقاً ولا تدخل رأسها ويحصل مقصودها بهذا الطريق، وهذا يدل على عقلها.
ومنها: أن العنكبوت تبني بيتها على وجه عجيب وعلى نسجه الشبكة التي تصيد بها الذباب.
وهذه أفعال فكرية فوجب الإقرار بثبوت العقل لها، وإذا أثبت كونها مهتدية عارفة بهذه الدقائق، فأي بعد في كونها عارفة بربها مسبحة لمالكها، ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: ?قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ? [النمل: ١٨] وهذا لا يصدر إلا من الفاهم العاقل.
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه مكحول عن بعض الأحبار أنه قال:«قام داود النبي عليه الصلاة والسلام ليلة على ساحل البحر يصلي ويسبح لله ويحمد، ويقول في دعائه: إلهي هدأت الأصوات، وغارت النجوم، ونامت العيون، وعين داود لم تنم، وأنت الحي القيوم، فهو متعجب بقيام ليله، فأوحى إلى ضفدع أن أجيبه فقال الضفدع: يا داود أعجبك قيام ليلة واحدة وأنا في مكاني هذا منذ سبعين سنة لم يفتر لساني من التسبيح والتقديس لربي، قال داود: فبأي شيء تسبحين؟ قالت: فإني أقول: سبحان ربي المعبود بكل مكان، سبحان ربي المشكور بكل لسان، سبحان ربي المحمود في كل أوان» .
وأما ما يتعلق بالتقوى التي دل عليها في الحديث قوله:«أتقاكم» فهو: أن البرماوي وغيره قالوا: إن التقوى على ثلاث مراتب:
الأولى: وقاية النفس عن الكفر وهذه المرتبة للعموم.
الثانية: وقاية النفس عن المعاصي وهي للخواص.
الثالثة: وقاية النفس عما سوى الله وهي لخواص الخواص.
قال حجة الإسلام الغزالي: التقوى كنز عزيز، ولئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وخير كثير، ورزق كريم، فوز كبير، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فجعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى، وتأمل ما في القرآن من ذكرها كم علق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة.