وسأل هارون الرشيد مالكاً عن الصانع، فاستدل عليه بخلاف الأصوات، وتردد النغمات، وتفاوت اللغات.
وسأل الأصمعي بعض الأعراب فقال له: كيف عرفت الله: فقال: البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وأبحر ذات أمواج ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير.
وسئل أبو نواس الشاعر عن الدليل على الصانع فقال: النرجس وأنشد فيه:
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
أصول من لجين زاهرات ... على أطرافها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن أبي بكر الأصبهاني قال: رؤي أبو نواس في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في النرجس (١) .
سؤال: هل الطيور والبهائم البرية والبحرية عارفة بربها أم لا؟
قال الإمام فخر الدين الرازي: أكثر أرباب الآثار والأخبار جوزوا ذلك، وقالوا إن كونها عارفة بربها مشتغلة بتسبيحه أمر جائز في العقول، فوجب الاعتراف بذلك، وإن حصول الفهم والعلم في ذوات هذه الحيوانات من جملة الممكنات والله تعالى قادر على كل الممكنات، واستدلوا على ذلك بأنه يحصل منها أفعال لا تصدر إلا من العقلاء بل من أفاضل العقلاء، فدل ذلك كونها عارفة بربها.
ثم بين ذلك بوجوه:
منها: أن النحلة أعطاها الله من الذكاء أنها تبني البيوت المسدسة، من غير نظر ولا آلة ولا شكل، وإن البشر لا يقدرون على بناء البيت المسدس إلا عند استعانة بالآلات الكثيرة، وإنها تسعي في تحصيل قوتها وتؤخره لعلمها أنها قد تحتاج إليه في الأزمنة المستقبلية، ولا تكون قادرة على تحصيله في تلك الأوقات فسعت وادخرته، وذلك لا يصدر إلا من عاقل عارف بربه.
ومنها: أن الجمل والحمار وغيرهما إذا ذهب في طريق في ليلة ظلماء مرة واحدة، المرة الثانية يقدر على السلوك بتلك الطريق من غير إرشاد مرشد، وما ذاك إلا لعقله
(١) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (١٣/٤٦٥) عن أبي بكر أحمد بن محمد بن موسى الأصبهاني بأصبهان قال ... فذكره.