للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله: «قال حدثنا سفيان» هذ هو سفيان بن عينيه، ويجوز في سين سفيان الفتح والضم والكسر، والضم أشهر وهو هلالي كوفي، ثم مكي، وهو من تابع التابعين سكن بمكة ومات بها، وكان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع والدين، ومن العلماء بكلام رب العالمين، وسنة سيد المرسلين.

ومن فضائله - رضي الله عنه - أنه قرأ القرآن وهو ابن أربع سنين، وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين، ولما بلغ خمس عشرة سنة قال أبوه يا بني اختلط بالخير تكن من أهله، واعلم أنه لن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم، فأطعهم وخذ منهم تقتبس من علمهم، قال: فجعلت لا أعدل عن وصية أبي.

وكان كثير التلاوة والحج، حج نيفاً سبعين حجة، وفي كل يوم يقول: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، حتى قال في المرة الأخيرة: قد استحييت من الله تعالى من كثرة ما أساله، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت غرة رجب سنه ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون.

ومن مناقبة ما حكي عن بعض أصحابه أنه قال: دخلت عليه وبين يديه قرصان من شعير فقال: يا أبا يوسف إنهما طعامي منذ أربعين سنة.

وكان كثيراً ما ينشد:

خلت الديار فسرت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسودد

قال الشافعي في حقه: لولا مالك (١) وسفيان لذهب علم الحجاز وهو من مشايخ الشافعي ومن ينتهي إليه سلسلة أصحابه في الفقه ومنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا يلتفت إلى الشافعي ويقول: سلوا هذا.

وكان يوماً جالساً وعنده أصحابه، وإذا بصبي قد دخل المسجد فتهاون به أهل المجلس لصغره، فقال سفيان: لأصحابه كذلك كنتم من قبل، فمنَّ الله عليكم، ثم التفت إلى واحد من أصحابه وقال له: يا فلان لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، وأنا كشعلة من نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، وبغلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار (٢) ، أجلس بينهم كالمسمار، ومحبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا جلست فيهم قالوا: وسعوا للشيخ الصغير، ثم ابتسم ابن عيينة وضحك، وإنما قال ذلك: حثاً لهم على إكرام الصغير، وإعلاماً لهم بأن العلم فضل الله يؤتيه من يشاء ولقد أحسن من قال: وكم من صغير وفقه الله في حال صغره، فغاب عليه الخوف من الله.


(١) هو: إمام دار الهجرة مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه ينسب المذهب المالكي، كان صلبا في دينه، بعيدا عن الإمارة، شديدا على الأمراء بعيدا عنهم له: الموطأ في الحديث، والمدونة الكبري، ولد بالمدينة وكانت وفاته بها سنة (٩٣هـ) .
انظر: الديباج المذهب (١/٣٠) ، والوفيات (١/٤٣٩) ، وتهذيب التهذيب (١٠/٥) .
(٢) عمرو بن دينار هو: عمرو بن دينار الجمحي بالولاء، أبو محمد الأثرم: فقيه، كان مفتي أهل مكة، فارسي الأصل، مولده بصنعاء سنة: ٤٦هـ هـ‍، ووفاته بمكة سنة: ١٢٦هـ‍.
قال شعبة: ما رأيت أثبت في الحديث منه، وقال النسائي: ثقة ثبت، واتهمه أهل المدينة بالتشيع والتحامل على ابن الزبير، ونفى الذهبي ذلك، قال ابن المديني: له خمسمائة حديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>