للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأحد من بعدي أي: لا ينبغي لأحد سواي، «فمن بعدي» هنا بمعنى سواي كقوله تعالى في الآية ?فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ? [الجاثية: ٢٣] أي: سوى الله.

وهذا الذي ذكرناه هو معنى قوله تعالى ?وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ? أي: ابتليناه بسلب ملكه أربعين يوماً ?وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ? الجسد هو ذلك الجني المسمي بصخر المارد أو غيره ?ثُمَّ أَنَابَ? [ص: ٣٤] ثم رجع إلى ملكه بعد فراغ تلك المدة، ووصل إلى الخاتم فلبسه، ولما وصل إلى الملك أمر بحمل أهل ذلك البيت الذي تزوج منهم، فوضعهم في وسط بيته، قيل: ولم يكن قارب تلك المرأة حتى رد الله تعالى عليه ملكه (١) .


(١) هذا الخبر ذكره الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء المسمى بالعرائس (ص ١٧٩) من قول محمد بن إسحاق، والنكارة لائحة عليه، ولم يذكره من المفسرين سوى الثعلبي، فقد ذكر المفسرون أسباباً أخرى لفقد الخاتم غير هذا السبب الوارد هاهنا.
قال السيوطي في الدر المنثور (٧/١٨١) : أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد - رضي الله عنه - في قوله ?وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ? قال: شيطاناً يقال له: آصف فقال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان - عليه السلام - وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه، ومنعه الله تعالى نساء سليمان - عليه السلام - فلم يقربهن ولا يقربنه وأنكرنه، وأنكر الناس أمر سليمان - عليه السلام -، وكان سليمان - عليه السلام - يستطعم فيقول: أتعرفوني أنا سليمان فيكذبوه، حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ينظف لها بطنه فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه ملكه، وفر الشيطان فدخل البحر فاراً.
رواه مجاهد في التفسير (٢/٥٥٠) ، وكذا الطبري في التفسير (٢٣/١٥٧) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ... به.
وقد أجمل ابن الجوزي في زاد المسير القول في هذه القصة وليس في كلامه ما في هذا الخبر لا من قريب ولا بعيد.
فقد قال ابن الجوزي (٧/١٣٥) : اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين:
أحدهما: أنه كان جالساً على شاطئ البحر فوقع منه في البحر قاله علي - رضي الله عنه -.
والثاني: أن شيطاناً أخذه.
وفي كيفية ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمام ووضع الخاتم تحت فراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطان يقول: أنا نبي الله قاله سعيد ابن المسيب.
والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه إياه فنبذه في البحر فذهب ملك سليمان، وقعد الشيطان على كرسيه قاله مجاهد.
والثالث: أنه دخل الحمام ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثل لها في صورة سليمان، وأخذ الخاتم منها، فلما خرج سليمان طلبه منها فقالت: قد دفعته إليك فهرب سليمان، وجاء الشيطان فجلس على ملكه قاله سعيد بن جبير.
والرابع: أنه دخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه الشيطان في البحر، فذهب ملك سليمان، وألقي على الشيطان شبهه قاله قتادة.
وأما قصة الشيطان فذكر أكثر المفسرين: أنه لما أخذ الخاتم رمى به في البحر وألقي عليه شبه سليمان فجلس على كرسيه وتحكم في سلطانه.
وقال السدي: لم يلقه في البحر حتى فر من مكان سليمان.
وهل كان يأتي نساء سليمان فيه قولان:
أحدهما: أنه لم يقدر عليهن قاله الحسن وقتادة.
والثاني: أنه كان يأتيهن في زمن الحيض فأنكرنه قاله سعيد ابن المسيب، والأول أصح.
قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة ويحكم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل فقال بعضهم لبعض: إما أن تكونوا قد هلكتم أنتم، وإما أن يكون ملككم قد هلك، فاذهبوا إلى نسائه فاسألوهن، فذهبوا فقلن: إنا والله قد أنكرنا ذلك، فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء.
وفي كيفية بعد الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال:
أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان قاله سعيد بن المسيب.
والثاني: أن سليمان لما رجع إلى ملكه وجاءته الريح والطير والشياطين فر الشيطان حتى دخل البحر قاله مجاهد.
والثالث: أنه لما مضى أربعون يوماً طار الشيطان من مجلسه قاله وهب.
والرابع: أن بني إسرائيل لما أنكروه أتوه فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة فقرؤوا فطار بين أيديهم، حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت قاله السدي.
وفي قدر مكث الشيطان قولان:
أحدهما: أربعون يوماً قاله الأكثرون.
والثاني: أربعة عشر يوما حكاه الثعلبي.
وأما قصة سليمان - عليه السلام - فإنه لما سلب خاتمه ذهب ملكه فانطلق هارباً في الأرض.
قال مجاهد: كان يستطعم فلا يطعم، فيقول: لو عرفتموني أعطيتموني أنا سليمان، فيطردونه حتى أعطته امرأة حوتا فوجد خاتمه في بطن الحوت.
وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر فوجد صيادين قد صادوا سمكاً كثيراً، وقد أنتن عليهم بعضه فأتاهم يستطعم فقالوا: اذهب إلى تلك الحيتان فخذ منها فقال: لا أطعموني من هذا فأبوا عليه، فقال: أطعموني فإني سليمان، فوثب إليه رجل منهم فضربه بالعصا غضباً لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً فشق بطن حوت فإذا هو بالخاتم.
وقال الحسن: ذكر لي: أنه لم يؤوه أحد من الناس، ولم يعرف أربعين ليلة، وكان يأوي إلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوماً على شط نهر وجد سمكة فأتى بها المراة فشقتها فإذا بالخاتم.
وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشق بطنها فوجد خاتمه.
ومن هذا الإجمال من ابن الجوزي رأينا أنه لم يذكر أن سبب فقد الخاتم ما أورده المصنف هاهنا، وبان لك أن ذلك بلاء من الله عز وجل لتأهيل سليمان - صلى الله عليه وسلم - لقيادة قومه، والله - عز وجل - يصطفي من عباده الأنبياء، ويضع فيهم أسباب تأهيلهم وتربيتهم على ما سيسسون به الأمم بعد ذلك. والله أعلم وهو أجل وأحكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>