النظام الرمزي الصوتي لا يصبح لغة إلا إذا استخدم للتعامل في بيئة إنسانية، ولذا فالبحث اللغوي يتناول البنية اللغوية ويربطها بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في هذه البيئة اللغوية. فطبيعة اللغة ووظيفتها شيئان مترابطان، فلو حاولنا أن نكتب اليوم عن الحياة اللغوية في العالم العربي الحديث فإننا نجد عددا من مستويات الاستخدام اللغوي تستخدم اللغة الفصحى في التأليف الأدبي والثقافي وفي كثير من برامج الإذاعة وتستخدم في المحاضرات العامة إلى حد كبير، ولكنها لا تكاد تستخدم في الحديث بين المثقفين، أما اللهجات المحلية فيدور بها الحديث اليومي في أمور الحياة.
وليس من الصحيح أن نقول بوجود مستويين اثنين هما الفصحى والعامية، فبين هذه وتلك عدة مستويات لغوية وللنظر في حديث المثقفين العرب حيث تتخذ عناصر كثيرة من الفصحى مكانها إلى جانب عناصر أخرى من اللهجات المحلية، نجد المصطلحات العلمية فصيحة وصيغ الأفعال عامية والضمائر عامية، ففي عامية المثقفين هذه تستقر عناصر من الفصحى وأخرى من العامية.
ولا يجوز أن نعمم هذا التقسيم، فكل مجتمع يعرف علاقاته اللغوية الخاصة ففي المجتمعات الأوربية المثقفة يدور الحديث باللغة الأدبية الفصحى، ويحاول كل مثقف في حديثه أن يجرد نفسه المثقف بقدر الإمكان عن التأثير باللون المحلي أو اللهجة الإقليمية، ويحاول الشباب المثقف في وسط أوربا استخدام الفصحى بقدر الإمكان، حتى إن الكثير من مثقفى المدن لم يعد يستخدم اللهجة المحلية على الاطلاق واقتصر استخدام اللهجات على التعامل المحلي بين أبناء القرية الواحدة أو القرى المتجاورة وهو استخدام متناقص مع الزمن.
فمجالات استخدام اللغة الفصحة في البيئات الأوروبية المثقفة وبيئات المدن عموما أكثر من مجالات استخدام العربية الفصحى في العالم العربي. وتبدو هذه الحقيقة من مقارنة الاستخدام اللغوي في المدارس والمعاهد العلمية هنا وهناك،