فقدت لغة البدو في القرن الرابع الهجري قيمتها كمثل أعلى للاستخدام اللغوي، وقد خصص اللغوي ابن جني فصلا في كتابه الخصائص بعنوان "أغلاط الأعراب"١. وعقد فصل بهذا العنوان في كتاب من كتب اللغة معناه أن نظرة القرن الرابع تختلف عن موقف اللغويين الأوائل في القرن الثاني. فعندما اختلف الكسائي وسيبويه في صحة العبارة "فإذا هو هي" أو "فإذا هو إياها". أي: هل يعتبر الضمير الثاني في حالة الرفع أم في حالة النصب؟ كان البدو هم الحكم في القضية. ورغم اختلاف الروايات في هذه القصة إلا أنها تجمع على أن البدو كان الحكم في هذه القضية، وشتان هذا الموقف وموقف ابن جني الذي يجعل نفسه حكمًا يفصل في مدى الصحة اللغوية للغة البدو، ويقضي بأن بعض ما عندهم ليس صحيحًا.
وهذا الموقف الجديد يرجع إلى مجموعة من العوامل، أهمها أن العربية في القرن الرابع الهجري كانت قد استقرت كلغة للثقافة. واستدعى هذا بالضرورة معجمًا متنوعًا جديدًا، فلم تعد لغة البدو بمعجمها البدوي وأفقها الصحراوي كافية للتعبير عن الثقافة العربية الإسلامية الراقية. لم يعد من الممكن أن تكتفي لغة الثقافة بالمعجم البدوي، فماذا يفعل الفيلسوف أو المنطقي أو عالم الرياضيات بمائة اسم للجمل أو مائتي اسم للأسد. إن اللغة العربية في القرن الرابع الهجري كانت قد استقرت لغة للثقافة، وأصبحت لغة كتابة تنمو على المستوى الثقافي، فظهرت المصطلحات والتعبيرات المختلفة، ولم يعد مثقفو القرن الرابع الهجري يلوذون بالبادية بحثا عن الغريب، بل كانوا يشتقون المصطلحات والتعبيرات المعبرة عن فكرهم وتخصصهم.
ولكن الشعر ظل داخل الضوابط اللغوية القديمة أو على الأقل حاول الشعراء أن يلزموا الخصائص اللغوية للشعر القديم، كما قننها النحاة المبكرون.
١ الخصائص ٣/ ٢٨٣–٢٣٢. وانظر أيضًا جـ٢ ص٥ وما بعدها.