للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فحيث كان القوم في جاهلية تعمى وتصم، يعبدون الأوثان، ويشركون بالله، وينكرون الوحي، ويكذبون بيوم الدين، وكانوا يقولون: {أإِذَا مِتنا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا إَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ١. {مَا هِيَ إلًَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ} ٢. وهم ألداء في الخصومة، أهل مماراة ولجاجة في القول عن فصاحة وبيان؛ حيث كان القوم كذلك نزل الوحي المكي قوارع زاجرة، وشهبًا منذرة، وحججًا قاطعة، يحطم وثنيتهم في العقيدة، ويدعوهم إلى توحيد الألوهية والربوبية، ويهتك أستار فسادهم، ويسَفِّه أحلامهم، ويقيم دلائل النبوة، ويضرب الأمثلة للحياة الآخرة وما فيها من جنة ونار، ويتحداهم -على فصاحتهم- بأن يأتوا بمثل القرآن، ويسوق إليهم قصص المكذبين الغابرين عبرة وذكرى، فتجد في مكي القرآن ألفاظًا شديدة القرع على المسامع، تقذف حروفها شرر الوعيد والسٌّنَّة العذاب، فـ "كلا" الرادعة الزاجرة، والصاخة والقارعة، والغاشية والواقعة، وألفاظ الهجاء في فواتح السور، وآيات التحدي في ثناياها، ومصير الأمم السابقة، وإقامة الأدلة الكونية، والبراهين العقلية - كل هذا نجده في خصائص القرآن المكي.

وحين تكونت الجماعة المؤمنة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وامتُحنت في عقيدتها بأذى المشركين فصبرت وهاجرت بدينها مؤثرة ما عند الله على متع الحياة -حين تكونت هذه الجماعة- نرى الآيات المدنية طويلة المقاطع، تتناول أحكام الإسلام وحدوده، وتدعو إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وتفصل أصول التشريع، وتضع قواعد المجتمع، وتحدد روابط الأسرة، وصلات الأفراد، وعلاقات الدول والأمم، كما تفضح المنافقين وتكشف دخيلتهم، وتجادل أهل الكتاب وتلجم أفواههم -وهذا هو الطابع العام للقرآن المدني.


١ الصافات: ١٦.
٢ الجاثية: ٢٤.

<<  <   >  >>