وقد عَنِيَ العلماء بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة، فتتبعوا القرآن آية آية، وسورة سورة، لترتيبها وفق نزولها، مراعين في ذلك الزمان والمكان والخطاب، لا يكتفون بزمن النزول، ولا بمكانه، بل يجمعون بين الزمان والمكان والخطاب، وهو تحديد دقيق يعطي للباحث المنصف صورة للتحقيق العلمي في علم المكي والمدني، وهو شأن علمائنا في تناولهم لمباحث القرآن الأخرى.
إنه جهد كبير أن يتتبع الباحث منازل الوحي في جميع مراحله، ويتناول آيات القرآن الكريم فيعيِّن وقت نزولها، ويحدد مكانه، ويضم إلى ذلك الضوابط القياسية لأسلوب الخطاب فيها، أهو من قبيل المكي أم من قبيل المدني؟ مستعينًا بموضوع السورة أو الآية، أهو من الموضوعات التي ارتكزت عليها الدعوة الإسلامية في مكة أم من الموضوعات التي ارتكزت عليها الدعوة في المدينة؟
وإذا اشتبه الأمر على الباحث لتوافر الدلائل المختلفة رجَّح بينها فجعل بعضها شبيهًا بما نزل في مكة، وبعضها شبيهًا بما نزل في المدينة.
وإذا كانت الآيات نزلت في مكان ثم حملها أحد من الصحابة فور نزولها لإبلاغها في مكان آخر ضبط العلماء هذا كذلك، فقالوا: ما حُمل من مكة إلى المدينة، وما حُمل من المدينة إلى مكة.
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتاب "التنبيه على فضل علوم القرآن": "من أشراف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجُحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلًا، وما نزل نهارًا،