تُولى الأمم اهتمامها البالغ بالمحافظة على تراثها الفكري ومقومات حضارتها، والأمة الإسلامية أحرزت قصب السبق في عنايتها بتراث الرسالة المحمدية التي شرفت به الإنسانية جمعاء، لأنها ليست رسالة علم أو إصلاح يحدد الاهتمام بها مدى قبول العقل لها واستجابة الناس إليها، وإنما هي -فوق زادها الفكري وأسسها الإصلاحية- دين يخامر الألباب ويمتزج بحبات القلوب، فنجد أعلام الهدى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يضبطون منازل القرآن آية آية ضبطًا يحدد الزمان والمكان, وهذا الضبط عماد قوي في تاريخ التشريع يستند إليه الباحث في معرفة أسلوب الدعوة، وألوان الخطاب، والتدرج في الأحكام والتكاليف، ومما رُوِي في ذلك ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه:"والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه"١.
والدعوة إلى الله تحتاج إلى نهج خاص في أسلوبها إزاء كل فساد في العقيدة، والتشريع والخلق والسلوك، ولا تفرض تكاليفها إلا بعد تكوين النواة الصالحة لها وتربية اللبنات التي تأخذ على عاتقها القيام بها، ولا تسن أسسها التشريعية ونظمها الاجتماعية إلا بعد طهارة القلب وتحديد الغاية حتى تكون الحياة على هدًى من الله وبصيرة.
والذي يقرأ القرآن الكريم يجد للآيات المكية خصائص ليست للآيات المدنية في وقعها ومعانيها، وإن كانت الثانية مبنية على الأولى في الأحكام والتشريع.