للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نفسه على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون, وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية؛ لأن المفروض أن المتواضَعَ عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة, ولا يعقل كذلك أن تكون لغة الإشارة؛ لأننا بصدد ألفاظ تدل على معانٍ كلية, أي: على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها.

وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه, برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية -أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات- وأصوات الحيوانات والأشياء، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الرابعة التي سنتكلم عنها قريبًا.

وإذا بطل أن اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع، وبطل كذلك أنها نشأت عن محاكاة لأصوات الإنسان الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء، لم يبق إذن تفسير معقول لهذه الظاهرة غير التفسير السابق ذكره, وهو أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة زود بها الإنسان في الأصل؛ للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة١.

وهذه النطرية -على ما فيها من دقة وطرافة وعمق في البحث- فاسدة من عدة وجوه:

١- فهي لا تحل شيئًا من المشكلة التي نحن بصددها, بل تكتفي بأن تضع مكانها مشكلة أخرى أكثر منها غموضًا, وهي مشكلة "الغريزة الكلامية".

٢- هذا إلى أن ما تقرره يعتبر -من بعض الوجوه- من قبيل


١ Max Muller Science du Langage ٩e Lecon.

<<  <   >  >>