تفسير الشيء بنفسه, فكل ما تقوله يمكن تلخيصه في العبارة الآتية:"إن الإنسان قد لفظ أصواتًا مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة؛ لأنه كانت لديه قدرة على لفظ هذا النوع من الأصوات". وهذا، كما لا يخفى، مجرد تقرير للمشكلة نفسها في صيغة أخرى.
٣- على أن قدرة الإنسان الفطرية أو المكتسبة على لفظ هذا النوع من الأصوات ليست موضوع البحث؛ لأنه من المقرر أن الإنسان مزود بأعضاء نطق تسمح له بلفظ هذا النوع من الأصوات، بل إن هذا مشترك بين الإنسان وبعض الطيور -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك, وإنما الذي يهمنا هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنساني، أي: البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره.
٤- ولكن أكبر خطأ وقعت فيه هذه النظرية هو ذهابها إلى أن الأصول الخمسمائة -السابق ذكرها- تمثل اللغة الإنسانية الأولى, فهذه الأصول -كما تقدم- تدل على معانٍ كلية، ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية, لا يتصور وجود مثلها في فاتحة النشأة الإنسانية, وها هي ذي الأمم البدائية التي تُعَدُّ أصدق ممثل للإنساية الأولى تؤيد ما نقول؛ فقد أجمع علماء الأتنوجرافيا الذين قاموا بدراسة هذه الأمم بأمريكا وأستراليا وإفريقيا وغيرها, على ضعف عقلياتها بهذا الصدد وعجزها عن إدراك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها. وقد كان لهذه العقلية صدًى كبير في لغاتها، فلا نكاد نجد في كثير منها لفظ يدل على معنًى كلي؛ ففي لغة الهنود الحمر مثلًا, يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء, وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء ... وهكذا، ولكن لا يوجد أيَّ لفظ للدلالة على شجرة البلوط، ومن باب أولى لا يوجد أيًّ لفظ للدلالة على الشجرة على