للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلى العكس من ذلك الشعوب الهندية - الأوربية, حيث ينشط التفكير، ويعمق الإدراك، ويدق البحث، وتتجه العقول إلى التأمل الفلسفي، وتميل إلى تفسير ظواهر الكون والمجتمع الإنساني تفسيرًا علميًّا يربطها بأسبابها وقوانينها العامة؛ ففي مثل هذه الشعوب تكثر في اللغات الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، والتراكيب المعبرة عن الحقائق العامة, وتغزر أزمنة الأفعال١، وتطول الجمل، وتتعدد أجزاؤها، وتتنوع الروابط, وتختلف دلالاتها، فتتسع للتعبير عن دقيق الوجدان، وعميق الإدراك، وحقائق الفلسفة والعلوم.

هذا وإن ما تقدم ذكره في هذه الفقرة وفي معظم الفقرات السابقة من هذا الكتاب ليدلنا أوضح دلالة على ما للمجتمع ونظمه وحضارته واتجاهاته من آثار بليغة في نشأة اللغات٢, وانتقالها من السلف إلى الخلف٣, وانشعابها إلى لهجات ولغات٤, وصراعها بعضها مع بعض٥, وتطورها من جميع الوجوه٦.

وقد بالغ جماعة من العلماء في تقدير هذه الآثار حتى كادوا ينكرون أن لغير الظواهر الاجتماعية أثرًا في شئون اللغة, ومن أشهر أفراد هذه الطائفة العلامة السويسري فرديناند دوسور٧.Ferdinand De Saussure


١ ليس للفعل في معظم اللغات السامية إلا زمنان: فعل انتهى زمنه "ماض"، وفعل لم ينته زمنه "أمر ومضارع للحال أو للاستقبال"، على حين أن له في اللغات الهندية - الأوربية أزمنة كثيرة, لكل منها صيغة خاصة. وقد بلغت هذ الأزمنة في اللغة الفرنسية أحد عشر زمنًا في الجمل الإخبارية وحدها -انظر آخر ص٢٢٢ وأول ص٢٢٣.
٢ انظر الفصل الأول من الباب الأول.
٣ انظر الفصل الثاني من الباب الأول.
٤ انظر الفصلين الأول والثاني من الباب الثاني.
٥ انظر الفصل الثالث من الباب الثاني.
٦ انظر ص٢٤٩-٢٦٦.
٧ انظر آخر صفحة ٦٥-٦٨. هذا ويفرق دوسو سور بين اللغة Langage, والكلام Parole وويعني بالكلام: تطبيق الفرد في تفاهمه مع غيره للنظم اللغوية التي تواضع عليها مجتمعه, فهو عمل في جوهره, ولذلك يخضع أحيانًا لمؤثرات غير=

<<  <   >  >>