وعلى هذه الطريقة تعتمد طائفة كبرة من العلوم الطبيعية؛ كالطبيعة والكيمياء والتاريخ الطبيعي, وما إلى ذلك, فأهم ما كشفه الباحثون في هذه العلوم يرجع الفضل فيه إلى الطريقة التجريبية, ولو أنهم اقتصروا على ملاحظة الظواهر في حالاتها العادية لما وصلوا إلى عشر معشار ما وصلوا إليه؛ فعالم الطبيعة مثلًا لا يكتفي فيما يتعلق بالجذب والكهربائية والمغناطيسية والضغط الجوي ... وما إلى ذلك, بملاحظة ظواهرها في حالاتها العادية، ولا ينتظر حتى تحدث الظاهرة التي يريد دراستها، بل يخلقها خلقًا في معمله, ويغير من الظروف المحيطة بها, ويختبر النتائج التي تنجم عن تجاربه، وعلى ضوء هذا كله يصل إلى كشف القوانين الخاضعة لها في مختلف أحوالها وأوضاعها.
أما العلوم الإنسانية، فلم تنتشر فيها هذه الطريقة انتشارًا كبيرًا, ولم يتجاوز استخدامها فيها دائرة ضيقة, وذلك أن معظم الظواهر التي تدرسها العلوم الإنسانية لا تواتيها طريقة التجارب, فليس في طاقة الباحث أن يخلق مثلًا نظامًا من النظم الاجتماعية, ويحوّر فيه وفي الظروف المحيطة به, وينظر إلى النتائج التي تنجم عن كل حالة من حالاته, كما يفعل هذا حيال ظاهرة جذب, أو حيال نبات, أو حيوان.
ولكن هذا لم يُثْنِ الباحثين في العلوم الإنسانية عن الانتفاع بهذه الطريقة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. فاستخدمت أولًا في علم النفس، وشاع استخدامها فيه حتى أصبحت الآن معظم الظواهر النفسية، من حفظ وذكر وانتباه وتداعي معان ... وما إلى ذلك، تدرس على النحو التجريبي الذي تدرس به الظواهر الطبيعية, ثم أخذ استخدامها منذ عهد قريب ينتشر في العلوم الاجتماعية, وخاصة علم اللغة.
وقد صادفت ميدانًا فسيحًا في شعبة "الفونيتيك", فلم يكتف الباحثون في هذه الشعبة بملاحظة الظواهر اللغوية في ظروفها العادية، بل لجئوا في مواطن كثيرة إلى التجارب، أي: إلى خلق الظواهر وإثارتها وتغيير أوضاعها والظروف المحيطة بها, والأشخاص الذين تجرى عليهم