الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة -بأنهم لم يأتهم نذير- ولو ماتوا على الكفر. وبهذا قال: جماعة من أهل العلم. وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم: إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله وبأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن الآيات التي استدلوا بها قوله -تعالى:(وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)[النساء: ١٨]. (وأخذ يذكر الآيات في هذا المقام والأحاديث مثل: إن أبي وأباك في النار) ... إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول: هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم أو معذورون بالفترة؟ وعقده في مراقي السعود بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع.
وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار: النووي في شرح مسلم وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع كما نقله عنه صاحب "نشر البنود" ... ونسب هذا القول: القرطبي وأبو حيان والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور ... قال مفيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ومن امتنع دخل النار وعذب فيها وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل اهـ.
قلت: انظر رحمك الله إلى اتفاق العلماء على: أن من وقع في الشرك فهو مشرك ولو لم تأته رسالة ولم تقم عليه حجة واختلفوا هل يعذب على هذا في الآخرة أم لا؟: على قولين والراجح: أنه لا يعذب في الدارين إلا بعد قيام الحجة الرسالية.
وفي هذا الموضع ضل فيه كثير من العقول والأفهام لظنها أن قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). حجة في إعذار من يقع في الشرك بالله، وأنه ما زال مسلماً موحداً مع انغماسه في الشرك وقطعوا بنجاته في الدارين إلا أن تقام عليه الحجة الرسالية.
ويرد على هذا الزعم الباطل هذا البحث الذي بين أيدينا الذي اتفق فيه العلماء: على أن من وقع في الشرك من أهل الفترات الذين هم في غياب عن الشرائع، وفي طموس من