للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا ينبغي للمفتي: أن يَحكي خلافًا في المسألة لئلا يُشوِّشَ على المستفتي، فلا يَدري بأي القولين يأخذ (١)، ولا أن يَذكُرَ دليلًا ولا مَوضعَ النقلِ من الكتب، فإنَّ في ذلك تضييعًا للورق على صاحبه، إِلا أن يَعلمَ أنَّ الفُتيا سيُنكرُها بعضُ الفقهاء، ويقعُ فيها التنازعُ، فَيقصِدُ بذلك بيانَ وجه الصواب لغيره من الفقهاء، الذي يَتوهَّمُ مُنازعتَه، فيَهتدي به، أو يَحفظُ عِرضَه هو عن الطعن عليه. وأما متى لم يكن إِلَّا مجرَّدُ الإسترشاد من السائل فليَقتصر على الجواب من غير زيادة.

ومتى كان الإستفتاء في واقعةٍ عظيمة تتعلَّقُ بمَهَامّ الدين أو مصالحِ المسلمين، ولها تعلُّقٌ بوُلاةِ الأمور، فيَحسنُ من المفتي الإِسهابُ في القولَ وكثرةُ البيانِ والمبالغةُ في إِيضاح الحق بالعبارات السريعةِ الفهم، والتهويلُ على الجُناة (٢)، والحضُّ على المبادرةِ لتحصيلِ المصالح ودرءِ المفاسد.


(١) جاء في "نهج البلاغة" ١٤٣:٤ منسوبًا إلى سيدنا علي - رضي الله عنه - أنه قال: إذا ازدحم الجواب خَفِي الصواب. انتهى.
ومن كلام الإِمام أبي حنيفة - رضي الله عنه -: إذا كثُرَ الجواب ضاع الصواب. وجاء في وصيته الجامعة التي أوصى بها تلميذَه الإِمامَ أبا يوسف بعد اكتماله - رضي الله عنه - قولُه: "ومن جاءك يستفتيك في المسائل، فلا تُجبْ إِلَّا عن سؤاله، ولا تَضُمَّ إليه غيرَه، فإنه يُشوِّشُ عليكَ جوابَ سؤاله". كما في آخر "الأشباه والنظائر" لإبن نجيم ص ١٧١.
(٢) ومن صور التهويل أن يسلك سبيل التعريض فيما يُسأل عنه، إذا رأى في ذلك مصلحه للمستفتي، لينزجر عن جنايته، مثلُ أن يَسأله إنسان عن القاتل هل له من توبة؟ ويَظهر للمفتي بقرينة أنه إن أَفتَى بأن له توبة ترتب عليه مفسدة، وهي أن القاتل يستهون القتل لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجًا، فيقول المفتي - والحالة هذه - صح عن ابن عباس أنه قال: لا توبة لقاتل. فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس وإن كان المفتي لا يعتقد ذلك، ولا يُوافِق ابنَ عباس في هذه المسألة، لكن السائل إنما يَفهم منه موافقتَه ابن عباس، فيكون سببًا لزجره. أفاده النووي في "شرح صحيح مسلم" ١١: ١٧٤.

<<  <   >  >>