وأما قوله: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان وذلك أن الرجل يولد مؤمنا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته وتجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره، ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته، وليس سبق الكتاب الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة، وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه.
وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فهو رجل يولد كافراً ويعيش كافرا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك، وفي حديث أبي سعيد مرفوعا «إن الرجل يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ثم يموت كافرا، وإن الرجل يولد كافرا ويعيش كافرا ثم يموت مؤمنا» رواه الإمام أحمد، وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته انتهى كلام ابن محمود.
وأقول: هذا الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه من أدلة إثبات القدر السابق وفيه الرد على من أنكر كتابه المقادير وعلى من زعم أن الكتابة عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وذلك لما فيه من النص على الكتابة وهو نص صريح لا يحتمل التأويل.