فأنت لا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم، أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد، وتلك المزية وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.
ثانياً: أن النقاد السابقين - كالقاضي الجرجاني وأبي هلال العسكري - قد كشفوا عن وجه النظم، حيث ذكروا فساده في نحو قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ... ... أبو أمه حى أبوه يقاربه
وفي نظائره، مما تواصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء التأليف، فليس يخالف أحد في أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم، أو تأخير، أو حذف، وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، ومالا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم.
ثالثاً: إذ ثبت أن فساد النظم، واختلاله هو: ألا يعمل بقوانين علم النحو، ثبت أن سبب صحته هو: أن يعمل عليها، ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم، ثبت أن الحكم كذلك في مزيته والفضيلة التي تعرض فيه. وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخى معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم.
وهكذا تجد أن عبد القاهر قد أخذ نظرية النظم من مناظرة أبي سعيد السيرافي، وأتمها بما قرأه في (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجي، ورأى أن مهمته - في الدلائل - هي: إثبات صحتها بالدليل المنطقي - كما رأيت - وكأنها نظرية هندسية تؤدي معطياتها إلى نتائج حتمية، لا يخالف فيها أحد.