ثم راجع فكرتك، وأشحذ بصيرتك. وأحسن التأمل، ودع عنك التجوز في الرأي ثم انظر: هل تجد لاستحسانهم، وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفاً، إلا إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها وحسن ترتيب تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن؛ وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد، والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد .... ؟ ".
فعبد القاهر - هنا - وهو يؤلف الأسرار، لم يستنتج من مقارنته تلك إلا أن فضيلة الكلام إنما هي في ترتيب الألفاظ في الذكر، على حسب ترتيبها في الفكر، مما يدلك على أنه لم يكن قد اطلع على مناظرة أبي سعيد، التي فيها أن النظم إنما هو: توخي معاني النحو فيما بين الكلم.
بل إن الحقيقة التي لم يلحظها كثير من البلاغيين هي أن (أسرار البلاغة) يخلو تماماً من كلمتي: (النظم) و (معاني النحو)! !
وهما الكلمتان اللتان أدار عليهما عبد القاهر الجرجاني (دلائل الإعجاز) وكرر كلا منهما أكثر من خمسين مرة!
وليس هذا فحسب، بل إنك عندما تقرأ "الدلائل" تحس بأن مهمته فيها تكاد تكون منصبة على إثبات صحة نظرية النظم، وأنها ليست إلا تتبع - أو توخي - معاني النحو فيما بين الكلم.
ومن الطريف أيضاً أن أبا هلال العسكري - وهو الذي سبق عبد القاهر في قراءة مناظرة أبي سعيد السيرافي - قد صنع ما يقرب من صنيع عبد القاهر - في المقارنة بين نصوص توصف بحسن النظم، وأخرى توصف بسوء النظم؛ ولكنه لم يتوصف إلى ما توصل إليه عبد القاهر؛