للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دعواك لو كانت يونان معروفة من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطنة الظاهرة، والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا، وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والفضائل لصقت بأصولهم، وفروعهم، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم، وهذا جبل ممن يظنه بهم، وعناد ممن يدعيه لهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء، ويخطئون في أشياء، ويعلمون أشياء، ويجهلون أشياء، ويصدقون في أمور، ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال، ويسيئون في أحوال، وليس واضع المنطق يونان بأسرها إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير، والجم الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم، ومع هذا، فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله، أو يؤثر فيه؟ هيهات هذا محال! ، ولقد بقى العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه، فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه منعقد بالفطرة والطباع، وأنت لو فرغت بالك، وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجاربنا فيها، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها، وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يونان، كما أنك غني عن لغة يونان.

وها هنا مسألة تقول: إن الناس عقولهم مختلفة، وأنصباؤهم متفاوته قال: نعم، قال: وهذا الاختلاف والتفاوت وبالطبيعة. أو بالاكتساب؟ قال: بالطبيعة، قال: فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي؟ !

<<  <   >  >>