قلت: وقد أخبرني القاضي جمال الدِّين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس، وما وقع فيه من إكرام الشيخ تقي الدين، وما حصل له من الشكر والمدح من السلطان، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة صدر الدِّين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلًا، وذلك أنَّه كَانَ إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كَانَ حاضرًا هذا المجلس، ذكر لي: أنَّ السلطان لما قدم عليه الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة نهض قائمًا للشيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هُنيهةً، ثمَّ أخذ بيده فذهب به إلى صُفَّةٍ فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدَّثان، ثمَّ جاء ويد الشَّيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصري، ثمَّ صدر الدِّين عليّ الحنفي، وجلس الشَّيخ تقي الدِّين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبه مائة ألف في كل سنة، زيادة على الجالية (١)، فسكت النَّاس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزَّمْلَكاني. قال ابن القلانسي: وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزَّمْلَكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثا الشَّيخ تقي الدِّين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ، وردّ على الوزير ما قاله ردًّا عنيفًا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويُسكته بترفّق وتودد وتوقير. وبالغ الشَّيخ في الكلام وقال
(١) وهو ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة عليهم كل سنة. «صبح الأعشى» (٣/ ٤٥٨).