وقع منه مثل ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرتُه يوم الجمعة وهو يَعِظ الناسَ على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا (١)، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به، فقامت العامةُ إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال، ضربًا كثيرًا حتى سقطت عمامتُه، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسَها، واحتملوه إلى دار عز الدِّين بن مُسَلَّم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدِّين تِنْكيز ــ وكان من خيار الأمراء وصلحائهم ــ فكتب إلى الملك الناصر بذلك وكتب عقدًا شرعيًّا على ابن تيمية بأمور منكرة منها: أن المطلّق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها: أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبًا لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر؛ فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسُجِنَ بها حتى مات في السجن.
* * * *
(١) هذا بهتان عظيم، فابن بطوطة دخل دمشق في التاسع من رمضان سنة ٧٢٦، وكان شيخ الإسلام آنذاك في السجن، فكيف رآه يعظ الناس يوم الجمعة على المنبر؟ وقد كتب بعض العلماء في الرد على هذه الفرية، منهم: الشيخ محمد بهجة البيطار في مجلة «العالم الإسلامي» س ١: ج ٧ - ٨ (١٩٤٠) (ص ٣٩٤ - ٣٩٩)، والشيخ محمد راغب الطباخ في مجلة المجمع العلمي بدمشق مج ١٧: ج ٣ - ٤ (١٩٤٢) (ص ١٣٢ - ١٣٤)، والشيخ محمد عطاء الله الفوجياني في مجلة رحيق مج ٣ (١٩٥٩) (ص ٥١١ - ٥١٨). وغيرهم.