إلى الغيبة، ومن ذلك يفهم أن الغرض الموجب لاستعمال «الالتفات» لا يجري على وتيرة واحدة، وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه. وفي الأمثلة التالية توضيح ذلك.
أ- فمن الالتفات بالرجوع والعدول عن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (١). وإنما قيل:
لَقَدْ جِئْتُمْ وهو خطاب للحاضر بعد قوله وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل على قائلي هذا القول بالجرأة على الله، والتعرض لسخطه، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه، كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكرا عليهم وموبخا لهم.
ومن هذا النوع أيضا، أي من الالتفات بالرجوع أو العدول عن الغيبة إلى الخطاب قول القاضي الأرّجاني:
وهل هي إلا مهجة يطلبونها؟ ... فإن أرضت الأحباب فهي لهم فدى
إذا رمتمو قتلي وأنتم أحبتي ... فماذا الذي أخشى إذا كنتمو عدى؟
فالبيت الثاني قد جاء وهو خطاب للحاضر بعد البيت الأول وهو خطاب للغائب. فالغرض البلاغي من وراء الالتفات بالعدول عن الاستمرار في الإخبار عن الغائب إلى مخاطبته هو تمثل أحبابه الغائبين في البيت الأول كأنهم حاضرون أمامه ليقرّعهم ويلومهم على عدم معاملته بالمثل، وذلك بالمقابلة بين مشاعرهم نحوه: هو على أتم استعداد لأن يفديهم بمهجته إن أرضاهم ذلك، وهم يرومون قتله بالتمادي في هجرانه
(١) الإدّ بكسر الهمزة وتشديد الدال: الأمر الفظيع المنكر، وأده الأمر بتشديد الدال: أثقله وعظم عليه.