للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل الجاحظ أول من فطن إلى هذا النوع من البديع المعنوي، فقد عقد له بابا خاصا في كتابه البيان والتبيين (١) وأطلق عليه اسم «اللغز في الجواب» وأورد له أمثلة شتى منها:

سأل رجل بلالا مولى أبي بكر رحمه الله وقد أقبل من جهة الحلبة:

من سبق؟ قال: سبق المقربون. قال: إنما أسألك عن الخيل. قال: وأنا أجيبك عن الخير. فترك بلال جواب لفظه إلى خبر هو أنفع له.

وقال الحجاج لرجل من الخوارج: أجمعت القرآن؟ قال: أمتفرقا كان فأجمعه؟ قال أتقرؤه ظاهرا؟ قال: بل أقرؤه وأنا أنظر إليه. قال:

أفتحفظه؟ قال: أفخشيت فراره فأحفظه؟ قال ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال لعنه الله ولعنك. قال: إنك مقتول فكيف تلقى الله؟ قال ألقى الله بعملي، وتلقاه أنت بدمي.

وقالوا: كان الحطيئة يرعى غنما، وفي يده عصا، فمر به رجل فقال: يا راعي الغنم ما عندك، قال: عجراء من سلم (٢)، يعني عصاه، قال: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها.

فمن هذه الشواهد ونظائرها يتضح أن هذا الأسلوب من الكلام والذي أطلق عليه الجاحظ «اللغز في الجواب» كان يستعمله العرب لأغراض مختلفة كالتظرف أو التخلص من إحراج السائل، أو تقديم الأهم، أو التهكم.

وما من شك في أن ما قدمه الجاحظ من أمثلة شتى في هذا الباب قد لفت أنظار البلاغيين من بعده لهذا النوع من الكلام، وأعطاهم الأساس


(١) كتاب البيان والتبيين ج ٢ ص ١٤٨، ص ٢٨٢.
(٢) العجراء: الكثيرة العجر، أي العقد، والسلم بالتحريك: شجر.

<<  <   >  >>