للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

به، ولأنّ في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد في النسيان؟ ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو يفتق ذهناً)، من فتق الفجر: انشقاقه، لعله أخذه من قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: ٣٠]، أو من الفتق الذي هو بمعنى الافتضاض تشبيهاً للنكاح بالأبكار.

ذكر من فوائد التكرير وعدها خصالاً ثلاثاً، أولاها: أن الفائدة راجعةٌ إلى القصص وأن كل واحدةٍ منها كافيةٌ في الاعتبار مزجرةٌ للزاجرين.

وثانيتها: الدلالة على أن التكرير في نفسه مفيدٌ ومؤثرٌ في نفسه وبه تحصل الملكات.

وثالثتها: أن الفائدة راجعةٌ إلى المخاطبين ومؤذنةٌ بأنهم من المصممين الذين لا تنجع فيهم المواعظ مرةً أو مرتين، وهذا الوجه هو المقصود في الإيراد في هذه السورة، لأن السورة من مفتتحها إلى مختتمها مشحونةٌ بذكر المعاندين من قوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر القصص لوعيدهم وتسليةً لقلب حبيبة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك لا ينافي اعتبار الفائدتين الأخيرتين، ومن ثم وصل قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ} أي: حفظكه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى حتى اتصل بقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} بياناً لعنادهم، وتقريراً بأن كلاً من القصص مستقلة. قال القاضي: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تقريرٌ لحقيقة تلك القصص، وتنبيهٌ على إعجاز القرآن ونبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>