إِلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ حَالٍ: فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ، وَذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى وُجُوبِهَا حَمْلًا لِلْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ، حَتَّى أَبْطَلُوا صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَسْتَعِذْ. وَقَدْ جَنَحَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، وَحَكَاهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ وَالْأَمْرُ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، وَبِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَدْرَأُ شَرَّ الشَّيْطَانِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ أَحْوَطُ، وَهُوَ أَحَدُ مَسَالِكِ الْوُجُوبِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا تَعَوَّذَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ فَقَدْ كَفَى فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ أُمَّتِهِ، حَكَى هَذَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ شَيْخُنَا الْإِمَامُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَفْسِيرِهِ.
(الثَّانِيَةُ) الِاسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلَاةِ لِلْقِرَاءَةِ لَا لِلصَّلَاةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ لِلصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَوَّذُ الْمَأْمُومُ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ، وَيَتَعَوَّذُ فِي الْعِيدَيْنِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لِلْقِرَاءَةِ فَقَطْ، فَهَلْ قِرَاءَةُ الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَكْفِي الِاسْتِعَاذَةُ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ، أَوْ قِرَاءَةُ كُلِّ رَكْعَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَكْفِي؟ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يَسْكُتْ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلِ الْقِرَاءَتَيْنِ أَجْنَبِيٌّ، بَلْ تَخَلَّلَهَا ذِكْرٌ، فَهِيَ كَالْقِرَاءَةِ الْوَاحِدَةِ حَمْدٌ لِلَّهِ، أَوْ تَسْبِيحٌ، أَوْ تَهْلِيلٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَرَجَّحَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الثَّانِيَ، وَأَمَّا الْإِمَامُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلٌ يُعْرَفُ لِمَنْ قَبْلَهُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِـ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ التَّعَوُّذِ، فَأَمَّا قِيَامُ رَمَضَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute