للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولأبي مسلم الأصفهاني تفسير آخر بناه على مذهبه من عدم نسخ شيء من القرآن، وهو أنّ المراد باللاتي يأتين الفاحشة السحاقات، وباللذين يأتيانها اللوطيان، أما حكم الزنى فبيّن في سورة النور، ويرى أنّ هذا أولى لوجوه:

أولا: أنه يبقي كلّ آية على حكمها، فلا ينسخ منها شيء.

وثانيا: أنّ الآية الأولى خاصة بالنساء، والثانية خاصة بالذكور، فيعلم أنه أراد فاحشة تكون من النساء في الأولى وهي السحاق، وفاحشة تكون من الذكور في الثانية وهي اللواط، ولو أراد الزنى لذكر حكم الزاني والزانية في آية واحدة، كما في سورة النور.

وثالثا: أنه على هذا التفسير لا يكون في الآيتين تكرار، أما على القول الآخر فتكون الآيتان في الزنى فيفضي إلى تكرار الشيء في الموضع الواحد مرتين، وقد علمت مما تلوناه عليك من تفسير السلف أنه لا قائل بهذا القول من السلف، وأنه لا تكرار، إذا الحكم الأول في الثيب، والحكم الثاني في البكر.

وقد زعم الرازي أنّ مجاهدا من السلف قد قال بهذا القول، ولعله قد ظن أن مجاهدا يريد من الرواية التي تقدمت في الرجلين اللواط، وقد نظرنا فوجدنا أنه يريد الزانيين، بدليل أنه رأى أن آية النور نسختها.

قال الله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) لما ذكر الله في الآية السابقة أنّ توبة اللذين أتيا الفاحشة تفيدهما، ناسب أن يبيّن بعد شروط التوبة ووقتها فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ ... إلخ.

يعني ليس قبول التوبة على الله لأحد من خلقه إلا لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وظاهر الآية أنّ من عمل السوء عالما به لا تقبل توبته، وهذا مخالف لما علم من الشريعة، ومن مثل قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣] .

وإن من عمل السوء عن جهل مؤاخذ، وفي حاجة إلى التوبة، مع أنّه لم يذنب ولمكان هذا ذهب العلماء إلى تأويل الجهالة مذاهب شتى، أقربها أنّ كلّ من عصى الله سمّي جاهلا، وسمّي فعله جهالة، قال الله حكاية عن يوسف: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف: ٣٣] وقال: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: ٦٧] وقال: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: ٤٦] .

ووجه تسمية العاصي جاهلا- وإن عصى عن علم- أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما عصى ربّه فلما لم يستعمل هذا العلم صار كأنّه لا علم له،

<<  <   >  >>