وذلك لأنّه قد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة، فقد قال الله تعالى في ضمان العدوان: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ والمراد من المثل النظير بالنوع في المثليات، والقيمة في القيميات، فهو مشترك معنوي، والحيوانات قد اعتبرها الشارع من القيميات للاختلاف الباطني في أبناء النوع الواحد، فأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلف نوعه.
وقد أهدر الشارع في ضمان المتلفات المماثلة الحاصلة في الصورة الظاهرة في أبناء النوع الواحد، فعدم اعتبارها فيما اختلف نوعه أظهر، ولسنا نقول إننا نعتبر القيمة ونصرفها نقدا، بل نحن نعتبرها معيارا تعرف بها قيمة الصيد، ثم يشترى بها ما يساويها من النعم إن بلغت هديا، وإلا أطعم بها مساكين، أو صام بمقدارها. فالمدار في الجزاء على المثل الذي هو القيمة، ليمكن أن يلجأ الحكمان إليها في تعيين الواجب من النعم.
ويستشهد الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فإن الالتجاء إلى حكمين اثنين من عدول المسلمين إنما يكون في شيء تختلف أنظار الناس فيه، وذلك ليس إلا القيمة. فإنّ مقابلة الصفات الظاهرة من العبّ والهدير قد لا تخفى على أحد.
وللشافعي ومحمد رضي الله عنهما أن يقولا: بل الأمر على العكس، فلم يوجب الله في ضمان سائر المتلفات غير الصيد الالتجاء إلى الحكمين، لأنّ الوقوف على القيمة سهل، فأما الوقوف على المضاهاة والمشاكلة في صفات الحيوانات وهيئاتها وطبائعها مما لا يهتدي إليه إلا الخبير بهذه الصفات والطبائع، والخبير بهذه الأشياء في الناس قليل. وما نظن أحدا يشعر أنّ بين الحمامة والشاة شبها في العب والهدير إلا من درس طبائع الحيوان وخواصه، فمن أجل ذلك احتجنا إلى الحكمين.
يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أي أنّ الجزاء الواجب يحكم به حكمان عدلان من المسلمين حال كون المحكوم به هديا بالغ الكعبة. أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أي من قتل صيدا فالواجب عليه جزاء مثله من النعم يبينه الحكمان، أو كفارة هي طعام مساكين أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أو ما يساوي ذلك، أي الجزاء المماثل صياما يقدر لكل ما يساوي طعام مسكين صوم يوم، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما، لأنّ الصيام لم يعهد في أقل من يوم.
وأنت ترى في الآية (أو) التي للتخيير، فأين التخيير يا ترى: أهو لمن وجب عليه الجزاء، أم هو للحكمين، ومتى حكما بشيء التزمه قاتل الصيد لا يتعداه.
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن الحكمين يقدران قيمة الجزاء، وأنه يساوي كذا من الهدي، وكذا من طعام المساكين، وكذا من الصيام، وقاتل الصيد مخيّر بين أيّها يفعل.