للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لعنة الله، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه، وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والإساءة والوحشة ما لا يكاد يلتئم معه شملهما، وما يبعد معه أن يعود بينهما السكن والمودة والرحمة التي هي سر الحياة الزوجية الهنية الراضية، فاقتضت حكمة الله- وشرعه كلّه حكمة ومصلحة وعدل ورحمة- تأبيد الفرقة بينهما، وقطع أسباب اتصالهما بعد أن تمحضت صحبتهما مفسدة، واستحال اجتماعهما إلى ضرر وشقاق.

هذه أحكام مترتبة على قذف الرجل زوجته وحدها، فأما إذا قذف معها أجنبي فهذا موضع قد اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحدّ للأجنبي.

وقال أحمد: يجب عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء أذكر المقذوف في لعانه أم لم يذكره. وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه سقط الحد له، كما يسقط الحد للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حد له.

والذين أسقطوا حكم قذف الأجنبي باللعان حجتهم ظاهرة، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سمّاه صريحا، وأيضا فإنّ الزوج مضطر إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه، وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدقه، كما استدل النبي صلّى الله عليه وسلّم على صدق هلال بشبه الولد بشريك، فكان قذفه تابعا لقذف الزوجة، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها.

وأجاب القائلون بأن اللعان لا يسقط حدّ الأجنبي عن عدم إقامة الحد لشريك بجوابين.

الأول: أن شريكا كان يهوديا، وهو باطل، والصحيح أن شريك بن عبدة، وأمه سحماء، وهو حليف الأنصار، ولم يكن يهوديا، وهو أخو البراء بن مالك لأمه.

والجواب الثاني: أنه لم يطالب به، وحد القذف إنما يقام بعد المطالبة، وهو غير سديد أيضا، لأن شريكا لما استقر عنده أنه لا حقّ له في هذا القذف لم يطالب به، ولم يتعرض لقاذفه. وإلا فغير معقول أن يسكت عن براءة عرضه وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه، والقوم كانوا أشدّ حميّة وأنفة، وأقوى تمسكا بالمحافظة على الكرامة.

هذا وقد استدلّ بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معيّن، لأنّ قول الزوج: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه، فإذا كان هذا جائزا فأولى منه بالجواز الدعاء باللعن على شخص مقطوع بكذبه.

وكذلك استدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر، وذلك لأنّ الزوج الذي قذف زوجته إن كان صادقا كانت زوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.

<<  <   >  >>