استقر في الطباع من أنّ العيال سبب في الفقر إن هو إلا ارتباط وهمي، فقد ينمّي الله المال مع كثرة العيال، وقد يحصل الإقلال مع العزوبة، والواقع يشهد بهذا.
وتحقيق ذلك أنّ المراد بيان أنّ النكاح ليس مانعا من الغنى، فعبّر عن ذلك ببيان أنّه سبب في الغنى مبالغة، على حدّ قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: ١٠] فإنّ ظاهره الأمر بالانتشار في الأرض إذا قضيت الصلاة، والمراد تحقيق زوال المانع وإنّ الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار في الأرض، فعبّر عن نفي المانع من الانتشار بما يقتضي طلب الانتشار مبالغة.
هذا وقد استدل بعض العلماء بالآية على أنّ النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة، لأنّه تعالى لم يجعل الفقر مانعا من الإنكاح، بل حثّ على إنكاح الفقراء، ووعدهم بالغنى، فإذا كان الفقر ليس مانعا من ابتداء النكاح فلأن لا يكون مانعا من استدامته أولى.
وأنت تعلم أنّ غاية ما تفيده الآية أنّه يندب ألا يردّ الخاطب الفقير ثقة بما عند الله. وهذا القدر أيضا ثابت في استدامة النكاح، فإنّه يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر وتستأني بها، وهذا لا يمنعها أن تستوفي حقها من فسخ النكاح إذا كان الشرع قد قرّر لها حق الفسخ للإعسار، فالمسألة موقوفة على ورود الشرع بالتفريق للإعسار، فإذا ورد بذلك شرع فالآية لا تنافيه.
واستدل بهذا كثير من العلماء على أنّه يندب للفقير أن يتزوج، ولو لم يملك أهبة النكاح، فإنّه من البعيد أن يندب الله الولي إلى إنكاح الفقير، ثم يندب الفقير إلى ترك النكاح، وتمام البحث في الآية الآتية:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الاستعفاف: الاجتهاد في العفة وصون النفس. والمراد بالنكاح هنا ما ينكح به، فإنّ فعالا يكون اسم آلة كركاب لما يركب به. ويجوز أن يراد به حقيقته الشرعية. وبالوجدان: التمكن منه، ويصح أن يقدّر في الكلام مضاف، أي لا يجدون أسباب النكاح ومبادئه: كالمهر، والكسوة، والسكنى، والنفقة.
يأمر الله الذين لا يجدون ما يتزوجون به أن يجتهدوا في العفة عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته، ويرزقهم ما به يتزوجون. وفي ذلك عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى تأميلا لهم وتطمينا لقلوبهم.
واستدلّ بعض العلماء بالآية على أنّه يندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان.
وقد تقدّم أن في الآية السابقة دليلا على ندب النكاح له، فكأنّ بين الآيتين تعارض في ظاهرهما، وللعلماء في الجمع بينهما طريقان:
فالشافعية يجعلون هذه مخصصة للآية السابقة، ويقولون: الفقراء قسمان: قسم