والشيء الوحيد الذي يكون فيه ذو الرحم أولى من غيره هو الميراث، ويكون المعنى على هذا كأنه قيل: لا تورثوا غير ذي رحم، لكن أن تسدوا إلى أوليائكم المؤمنين والمهاجرين معروفا، فذلك جائز: بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام.
وترى أنّا قد فسرنا الأولياء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً بالأولياء من المؤمنين والمهاجرين، وذلك جريا على ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن الآية في ترك التوارث بالهجرة والمؤاخاة، ويكون هذا تمشيا مع ما أسلفناه من أنّ (من) في قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ داخلة في المفضل عليه.
وروي عن بعضهم أن الآية نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني، ويكون معنى الآية أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم، وهذا الوجه مروي عن محمد بن الحنفية وغيره.
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً كان هذا الحكم الذي دلت عليه الآيتان مثبتا بالأسطار في القرآن، أو حقا مثبتا عند الله لا يمحى.
ترى مما تقدم أنّا قد فسرنا (أولي الأرحام) بذوي القرابة مطلقا، أيا كان نوعهم، وقد نقل الفخر الرازي أنّ الإمام الشافعي رضي الله عنه فسّرها بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي من الحنفية. ثم هو بعد ذلك يردّ فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام من حيث إنّ الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إنّ الآية اقتضت أنّ ذا القرابة مطلقا أولى من غيره. وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض فهذا به أدلته الخاصة، ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم وهو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدّم بيت المال عليهم.
وقد اختلف العلماء في تقديم ذوي الأرحام على مولى العتاقة. فذهب بعضهم إلى أنّ ذا الرحم أولى، وهو يروى عن ابن مسعود، وظاهر الآية يساعده.
ويرى بعضهم أنّ مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو مرويّ عن كثير من الصحابة، بل زعم الجصاص أنّه مذهب سائر الصحابة، وقد روي عن ابنه حمزة أعتقت عبدا ومات، وترك بنتا، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته، ونصفه لابنة حمزة، ولم يقل لنا الرواة هل كان للميت ذو رحم حتى يتم الدليل؟
وهذا إن صح يدلّ أيضا على أن مولى العتاقة أولى من الرد، وهذا لا يكون إلا إذا كان مولى العتاقة محسوبا من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم، وقد روي أنّ النبي جعل ابنة حمزة عصبة لمولاها،
وقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:«الولاء لحمة كلحمة النّسب» .