والذي أعجبنا من كلام الفخر هو الجزء الأخير منه، وأما ما قبله فهو قابل للمناقشة، وما نرى في عدم فعل الصحابة طعنا ولا شينا، بل إنّهم فهموا أنّ شرعية هذا الحكم قصد منها الحد من المناجاة الكثيرة، فيضيع وقت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد سبق أن قلنا: إن المناجاة لا يمكن منعها، فمنها الضروري، ومنها ما يكون فيه مصلحة عامة للمسلمين.
وأما الصدقة فلم تطلب لأنّها صدقة، فالصدقات مطلوبة، ومرغب فيها من غير توقف على المناجاة، ولو أنّ الصحابة فهموا أن المقصود التوسل بالمناجاة لتكون بابا من أبواب الصدقة ما تأخروا، فمنهم من نزل عن جميع ماله، ومنهم من كان يريد أن يتصدّق بالثلثين، لأنه لا يرثه إلا ابنة واحدة. وما دام المقصود القصد من المناجاة التي تشغل الرسول صلّى الله عليه وسلّم فليحرصوا على القصد، على أنّهم وجدوا في قوله تعالى:
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فسحة. فمن ذا الذي كانت دراهمه ودنانيره حاضرة معه في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى يتصدق بها، أو يقال: إنه لم يمتثل الأمر؟
ونظنّ أنّا بما قدمنا نجدك في غنى عن تفسير الآية الأولى، وأما قوله: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) فمعناه أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال، فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به، وتاب عليكم، ورخّص لكم في الترك، فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ولا تفرّطوا فيها وفي سائر الطاعات.
وليس يشتمّ من هذه الآية أنه وقع منهم تقصير، فإنّ التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت مناجاة لم تصحبها الصدقة، والآية قالت: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من التصدق، وقد يكون عدم الفعل لأنهم لم يناجوا، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا.
وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم فلا يدل على تقصيرهم، فقد يكون الله علم أنّ كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال الله لهم: أَأَشْفَقْتُمْ.
وكذلك ليس في قوله: وَتابَ اللَّهُ ما يدل على أنهم قصّروا، فإنّه يحمل على أنّ المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبّر عنه بالتوبة، ولذلك عقب عليه بما يكون شكرا على هذا التخفيف فقال: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني أنّه إذا تاب عليكم، وكفاكم هذا التكليف، فاشكروه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومداومة الطاعة، لأنه المحيط بأعمالكم ونياتكم.