ولقد كان ما بدا من خلاف بين الآيات مثار الخلاف بين العلماء في مدلول الآيات، فمنهم من يرجع آية الحشر الثانية إلى آية الأنفال، ويجعل آية الحشر الأولى منسوخة، ومنهم من يقول: الآيات الثلاث لثلاثة معان متباينة:
فآية الأنفال في الأموال تؤخذ عنوة.
وآية الحشر الأولى [٦] فيما يتركه الكفار فرارا ويأخذه المسلمون بعدهم من غير قتال.
وآية الحشر الثانية [٧] فيما يؤخذ صلحا من جزية وخراج، وما شابه ذلك.
والأحكام في الآيات مختلفة بحسب ذلك، فما يكون غنيمة يقسّم بين الغانمين، وما يؤخذ فرارا فهو للرسول، يأكل منه، ويصرفه بعد ذلك في مصالح المسلمين، وما يؤخذ صلحا فهو لمن ذكر الله في آية الحشر الثانية، وسنزيدك بعض الإيضاح فنقول:
إنّ من العلماء من جعل الغنيمة غير الفيء، وقال: الغنيمة: ما أخذه المسلمون من أموال الكفار في الحرب، والفيء: ما أخذ من غير حرب، وجعل آية الأنفال في الغنيمة، وقال: إن آية الحشر الأولى في الكفار من أهل الكتاب من بني النضير، لم يتكلّف المسلمون عناء في مقاتلتهم، ولم يكن للمسلمين يومئذ خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافات كثيرة، إذ لم يكن بينها وبين المدينة سوى ميلين، ولم يركب إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان راكبا جملا، فلما كانت المقاتلة قليلة، ولم يكن للمسلمين فيها خيل ولا ركاب، جعل ما أخذ من الكفار كلّه للرسول صلّى الله عليه وسلّم، يعول منه أهله، وينفق الباقي في مصالح المسلمين، ثم جعل الآية الثانية من الحشر بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار، ويجعل الآية الثانية كأنّها جواب سؤال نشأ من الآية الأولى كأنّه قيل: قد علمنا حكم الفيء من بني النضير، فما حكم الفيء من غيرهم، فقال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ولذلك ترى العطف.
وقد نقل الآلوسي الفرق بين الغنيمة والفيء عن بعض الشافعية، وقال: إن الحنفية قالوا بالتفرقة أيضا، ونقولها عن «المغرب» وغيره من كتب اللغة، قالوا: الغنيمة:
ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة. وحكمها أن تخمّس، وباقيها للغانمين خاصة.
والفيء: ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها، وصيرورة الدار دار الإسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمّس بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين.
ونقل هذا الحكم الإمام ابن حجر عمّن عدا الإمام الشافعي من الأئمة الأربعة:
وقال: إن الشافعي خمّس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص.
بجامع أنّ كلّا منهما مال الكفار، استولى عليه المسلمون، واختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره لا تأثير له.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صنع بأرض العراق ما حكمت به الآية،