يلهي النفوس بنغمات الصوت، ويصرفها عن الاعتبار وتدبر معاني القرآن.
هذه أدلة المانعين، وقد تأوّلوا ما أورده المجيزون مما يفيد جواز القراءة بالألحان فقالوا في
حديث:«زينوا القرآن بأصواتكم»
إن فيه قلبا، وأصله:
«زينوا أصواتكم بالقرآن»
كما قيل في: عرضت الناقة على الحوض، وعلى تسليم أنه ليس في الحديث قلب، فمعنى تزيين القرآن بالأصوات تجويده، وتحسين أدائه بالمد والغنة والإظهار، وضبط كلماته، وتبيين حروفه، وأنت ترى أنّ هذا التأويل بوجهيه بعيد عن لفظ الحديث غاية البعد، وهو على كل حال تأويل لا دليل عليه، ولا موجب له.
وقالوا في
الحديث الثاني:«ليس منّا من لم يتغن بالقرآن»
إنه ليس من الغناء وإنما هو من الاستغناء، كما فسره بذلك سفيان بن عيينة، ومعناه: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن الحديث، أو عن أخبار الأولين. قالوا: وقد ورد التغني بمعنى الاستغناء في كلام العرب. قال الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغنّي
وأنت ترى أيضا أنّ تأويل التغني بالاستغناء تأويل بعيد لا دليل عليه، ولذلك لما سئل الشافعي عن هذا التأويل المنسوب لابن عيينة قال: نحن أعلم بهذا، لو أراد به الاستغناء لقال. من لم يستغن بالقرآن، ولكن لما قال:«يتغنّ بالقرآن» علمنا أنه أراد به الغناء. أما بيت الأعشى فلا حجة لهم فيه، فإنّه لا يستقيم معناه على إرادة الاستغناء، وإنما هو بمعنى الإقامة، من قولهم: غنى فلان بمكان كذا إذا أقام، ومنه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا.
ثم أوّلوا ما ورد في بقية الأحاديث التي استدلّ بها المجيزون من الترجيع والتحبير والتغني مما يرجع لحسن التجويد، وإتقان الأداء.
والحق أنّ الأدلة تشهد للمجيزين، وذلك لأنه إذا كان التلحين والتطريب يغيّر من ألفاظ القرآن، ويخلّ بما نقل إلينا من طرق الأداء أو كان تكلّفا وتصنّعا ورفعا وخفضا على نحو توقيعات الموسيقى، فلا كلام في أنّه ممنوع ومحرّم.
أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا، وشيئا قضى به اتعاظ القارئ، وكمال تأثّره بمعاني القرآن، فليس هناك من الأدلة ما ينهض على منعه. بل الأدلة شاهدة به وداعية إليه. وعلى هذا ينبغي حمل كل ما أورده المانعون في منع التغني على التغني المذموم الذي يسير فيه القارئ مع الهوى ويلهو به عن تدبر المعنى ويخرج فيه عن الحدود والقوانين المأثورة في الأداء والترتيل. وهذا محمل قريب جدا وهو فوق ذلك مؤيد بتلك النصوص والآثار التي تجيز التغني في قراءة