للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا كانت الآخرة انقلبت الدنيا واستحالت إلى عذاب شديد، أو مغفرة من اللَّه وحسن ثوابه وجزائه، كما قال علي بن أبي طالب : "الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ومطلب نجح لمن سالم. فيها مساجد أنبياء اللَّه، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، فيها اكتسبوا الرحمة، وربحوا فيها العافية، فمن ذا يذمّها وقد آذنت بنيها، ونَعَتْ نفسها وأهلها، فتمثلت ببلائها، وشوّقت بسرورها إلى السرور تخويفًا وتحذيرًا وترغيبًا، فذمّها قوم غداة الندامة، وحمدها آخرون؛ ذكّرتهم فذكروا، ووعظتهم فاتعظوا. فيا أيها الذّامّ للدنيا المغترّ بتغريرها متى استذمّت إليك؟ بل متى غرّتك؟ أبمنازل آبائك في الثرى، أم بمضاجع أمهاتك في البلى؟! كم رأيت موروثًا، كم علّلتَ بكفَّيْك عليلًا، كم مَرّضتَ مريضًا بيديك تبتغي له الشفاء، وتستوصف له الأطباء؟ لم تنفعه شفاعتك، ولم تسعفه طلبتك، مُثّلت لك الدنيا غداة مصرعه ومصرعك" (١). ثم التفت إلى المقابر فقال: "يا أهل الغربة ويا أهل التربة أما الدور فسُكنت، وأما الأموال فقُسمت، وأما الأزواج فنُكحت، فهذا خبر ما عندنا، فهاتوا خبر ما عندكم". ثم التفت إلينا فقال: "أمَا لو أُذن لهم لأخبروكم أن خير الزاد التقوى" (٢).

فالدنيا في الحقيقة لا تذم وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهي قنطرة ومعبر إلى الجنة أو النار. ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن اللَّه والدار الآخرة، فصار هذا هو


(١) بعد هذه الكلمة في النسخ الثلاث الأخرى: "ومضجعه ومضجعك".
(٢) رواه عنه: ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" رقم (١٤٧)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٤٢/ ٤٩٨ - ٤٥٠) و (٥٨/ ٦٩ - ٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>