فيكون متبوعًا، ويتأخَّر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقلُ في مجال النظر إلا بقَدْر ما يُسرِّحه النقلُ، والدليل على ذلك أمور … [منها] أن للأصوليين قاعدة .... ، وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليًّا سابقًا للفهم عند ذكر النصِّ، صحَّ تحكيم ذلك المعنى في النصِّ بالتخصيص له والزيادة عليه، ومثَّلوا ذلك بقوله ﵇:"لا يَقْضِي القَاضِي وهُو غَضِبَانُ"(١)؛ فمنَعوا - لأجل معنى التشويش - القضاء مع جميع المشوِّشات، وأجازوا مع ما لا يُشوِّش من الغضب، فأنت تراهم تصرَّفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقُّف وذلك خلاف ما أصَّلت، وبالجملة فإنكار تصرُّفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه.
فالجواب: أن ما ذكرتُ لا إشكال فيه على ما تقرَّر … ؛ فإن إلحاق كلِّ مشوِّش بالغضب من باب القياس، وإلحاقُ المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغٌ، وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير، فليس من تحكيم العقل، بل من فَهْم معنى التشويش، ومعلومٌ أن الغضب اليسير غير مشوِّش؛ فجاز القضاء مع وجوده بناءً على أنه غيرُ مقصود في الخطاب.
هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى، وأن مطلَق الغضب يتناوله اللفظ، لكن خصَّصه المعنى.
والأمرُ أسهلُ من غير احتياج إلى تخصيص؛ فإن لفظ "غضبان" وزنُه "فَعْلَان"، و"فَعْلَانُ" في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتُقَّ منه؛ فـ "غضبان" إنما يُستعمَل في الممتلئ غضبًا؛ كرَيَّان في الممتلئ رِيًّا، وعطشان في الممتلئ عطشًا، وأشباهِ ذلك، لا أنه يُستعمَل في مطلَق ما اشتُّق منه.