الهجرة شرعاً هي: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، هذه هي الهجرة الواجبة شرعاً إلى قيام الساعة، فلا يصح الاستدلال بالأحاديث التي ذكرناها آنفاً أو التي فيها أن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
ونحن الآن في زمان الفتن، والهجرة بلاشك واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ونحن في أوضاع ما مرت الأمة الإسلامية بمثلها من قبل، وبعض العلماء يرى أن تقسيم البلاد إلى دار كفر ودار إسلام، ما ينبغي أن يتواجد إلا عند وجود دار الإسلام، يعني: لا يوجد دار كفر حتى يوجد دار إسلام، وإن كان في هذا الكلام تفصيل، والمشكلة اليوم أن المسلم يقع في حيرة شديدة، لكن بلا شك أن الإقامة في بعض البلاد الإسلامية تكون الفتن فيها أقل من بلاد الكفر، والمسألة نسبية، فبالنسبة لغيرها من بلاد الكفر تكون الفتن فيها أقل من الفتن في غيرها، ويستطيع المسلم أن يحافظ على دينه وأن يسلم من الفتن الشائعة، وأن يقوم ببعض الشعائر والمظاهر الإسلامية، مع أن بعض هذه البلاد الإسلامية التي يمكن أن يهاجر إليها المسلم تجد فيها حكومات سائرة في طريق العلمانية، ورفض الإسلام، والتآمر عليه، حتى أنهم يمنعون من هاجر إلى هذه البلاد تديناً، ففي بعض البلاد المعروفة يستجلبون الكفار من كل بلاد الأرض حتى الهندوس، ويستعملونهم، ويستأمنونهم في الطب مثلاً على أعراض المسلمات، وفي البيوت تعمل الخادمات وأكثرهن من عباد البقر، ويفسدن في داخل بيوت المسلمين، لكن المسلم الذي يسافر إلى هذه البلاد مهاجراً تديناً بهذه الهجرة، سواءً إلى مكة أو المدينة، فربما إذا لم يكن له وضع قانوني معين يشحن مع السيارات إلى المطار ويطرد من تلك البلاد، وإن كانت هجرته تديناً، والمدينة ومكة هما دار إسلام إلى قيام الساعة، وهما أقل البلاد فتناً بفضل الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يقف هؤلاء الطواغيت ليحولوا دون هجرة المسلمين إلى هذه البلاد التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن (الإيمان يأرز إلى المدينة أو إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل).
وبعض إخواننا المسلمين من الأوربيين أو الأمريكيين بعدما يسلمون يذهبون إلى مكة والمدينة، ويقيمون فيها بنية أنه إذا خرج الدجال يحتمون بمكة والمدينة؛ كما ثبت في الحديث أنه لا يدخلهما المسيح الدجال، وهذه من فضائل مكة والمدينة.
أيضاً: تأتي مشكلة من ناحية أخرى، وهي أن بعض حكومات البلاد المسلمة أصبحت وكأنها ارتدت عن الإسلام، فيؤذي الصالحين، لكن بعض ديار الكفر التي لم يدخلها الإسلام أصلاً مثل أغلب دول أوروبا وأميركا قد لا يؤذى المسلم فيها، فيفتن فتنة أخرى حيث يجد هناك من الحرية التي تجيزها نظم هذه البلاد ما لا يجده في بلاد المسلمين، فقد يفتتن بعض الناس بهذه الأشياء، ويتعامون عن كثير من الاعتبارات الأخرى، فلا يحسنون تقدير هذه الأمور.
ولا شك أن المسلم إذا أقام في بلاد المسلمين يسلم من الفتن أكثر من البلاد الكافرة، لكنه قد لا يسلم من أن يطرد منها، وقد رأيت بعيني كثيراً من الأفغان أيام الانقلاب الشيوعي في أفغانستان يأوون إلى مكة والمدينة هرباً من الحكم الشيوعي الكافر هناك، لكنهم كانوا يعتقلون في السعودية ويطردون ويعادون إلى حكم الكفار الشيوعين في أفغانستان بالقوة! فكان بعض الناس منهم يتخلفون من العمرة أو الحج ويمكثون هناك، وهنا أذكر بعض أبيات شعر قرأتها لشاعر يحرض على مطاردة هؤلاء الأجانب، فيقول وهو يخاطب الناموسة: فيا ناموستي والصلح خير فأنت رفيقة من عهد هود أقيمي بيننا أهلاً وسهلاً ولكن للأذية لا تعودي عليك عليك بالغرباء علينا وسيبي الرادف الأصل السعودي يعني: يسلط الناموسة ويقول: نعمل اتفاق بأن تتركي السعودي الأصلي، وعليك بالغرباء علينا من هؤلاء الناس الذين يأوون إلى هذه البلاد، وكل هذا من مؤامرات أعداء الإسلام، حيث جعلوا الحدود السياسية والفواصل بين ديار المسلمين، ومزقونا كما تمزق قطعة الجبن، وكل حاكم أخذ جزءاً من بلاد المسلمين يصبغها بصبغته حتى لا تلتحم أمة المسلمين ثانية، بينما تجد الحدود في بعض البلاد الأوروبية ليست مثل هذا التقسيم، وإنما هي عبارة عن شارع، وفي وسطه صف واحد من الطوب يفصل بينهما، بحيث أن الإنسان إذا خطا بقدمه خطوة انتقل من بلد إلى بلد آخر، فهذه هي الحدود عندهم بمنتهى الحرية، وتجد السيارات تمر بين هذه البلاد والأخرى، وغابت الحدود السياسية هذه.
لكن في بلاد المسلمين وضعوا الحواجز النفسية والحواجز المادية، وصنعوا المشاكل على الحدود حتى يحصل الاقتتال بين المسلمين كما هو معلوم من سياسة فرق تسد، حتى لا يلتئم شمل هذه الأمة، وكل هذا يحصل نتيجة النظم المعرضة عن الإسلام.
نعود إلى الموضوع الذي نتحدث فيه، وهو أن المسلم الآن في فتنة بين هذين الأمرين، بين بعض البلاد الإسلامية التي إذا ذهب إليها يطرد منها إن لم يكن له وضع قانوني يمكنه من الإقامة مثلاً، ومع ذلك يظل مهدداً بالطرد في أي وقت، وإما أن يذهب إلى البلاد الأوروبية حيث الفتنة في دينه، وحيث الفساد المعلوم هناك، وحيث الفتنة أيضاً بمدى الحرية التي قد يتمتع بها ولا يجدها في ديار المسلمين.
ومع ذلك إذا أنصف الإنسان وتأمل في أحوالنا مثلاً هنا في مصر، يجد أن أكثر الناس الذين يذهبون إلى البلاد الأوروبية أو إلى البلاد الأخرى العربية يغبطوننا على ما نحن فيه من العافية من الكثير من البلاء ولله الحمد، مع العناء الذي نعانيه هنا في بلادنا، ولكن يوجد كثير من الخير والبركة هنا في الشباب المسلم الملتزم، والدعوة التي تؤتي ثمارها في كل حين بإذن ربها، فهذا مما يطمئن الإنسان مادام أنه يستطيع أن يؤثر فيمن حوله، وينشط في سبيل هذه الدعوة، وفي ذلك خير كثير لمن كان يرجو ثواب الله سبحانه وتعالى.