من مواقف الولاء ما حكاه الأستاذ عبد الله عفيفي في بعض كتبه، يحكي قصة من القصص التي عاشها ورآها بنفسه يقول: في أصيل يوم من صيف سنة (١٩١٤م) كنت واقفاً في جمهور الواقفين في محطة طنطا أترقب القطار القادم من الإسكندرية لأركبه إلى القاهرة، لقد كان كل الواقفين في شغل في تلك الدقائق المعدودات في توديع وإشفاق وترقب وانتظار وحمل متاع، وكنت في شغل بصديق يجاذبني حديثاً شيقاً ممتعاً، وفي تلك اللحظات الفانية وبين ذلك الجمع المحتشد راع الناس صياح وأصوات، وتردد واضطراب ومسابة ومدافعة، ثم أسكتوا، فإذا فتاة في السابعة عشرة من عمرها يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساع من سعاة معتمد الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوروبي جاوز الستين، مكتئب مهموم، وهي تدافع الرجلين حولها بيدين لا حول لهما، أقبل القطار ثم وقف، فكاد كل ينسى بذلك الموقف موقفه وما حصل له، ثم أقعدت الفتاة، وصعد معها من حولها، وعجلت أنا وصاحبي فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم، كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يجمل معها الصبر، ولا يحمد منها الصمت، سألت الشيخ: ما خطبه؟ وما أمر الفتاة؟ فقال وقد أطرقه الدمع وقطع صوته الأسى: إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتجزت ثيابها لتتولى أمر غسلها، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحتي وجهها وثغرها، ثم أخذت تقضي وقتها في صلاة وصيام وسجود، وكانت تدعى رون، فأبت إلا أن تسمى فاطمة، وما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، وصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة والزهرة بالزهرة، ففجعت لهول ذلك الأمر، وقصدت أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها ولم يجد إلا ثباتاً وامتناعاً، وعزت على هذا القسيس شيبته، فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الفتاة الخارجة عن دينها، وهنالك أمر المعتمد حكومة مصر فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم أبيها ليقذف بها بين جوانب الدير تسترد فيها دينها القديم، قلت: أو أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم ولا جريمة؟ فزفر الرجل زفرة كادت تجزع لها قلبه وأحناء ضلوعه، ثم قال: لقد خدعت، وغلب أمر الحكومتين أمري، فما عساني أفعل؟! على أثر ذلك انثنيت إلى الفتاة وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله ما تخشع الراسيات دون احتماله، فقلت: ما بالك يا فاطمة؟! وكأنها أنست مني ما لم تأنسه ممن حولها، فأجابتني بصوت يتعثر من الضنا: لنا جيرة مسلمون أذهب إليهم فأستمع أمر دينهم، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة، رأيت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يقول وهو يلوح إلي بيده: اقتربي يا فاطمة.
يقول: ولو أنك أبصرتها وهي تنطق باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لرأيت رعدة تمشي بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلى أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانها فتعقله، وإلى وجهها فتحيل لونه، فلم تكد تستتم كلمتها حتى أخذتها رجفة فهوت على مقعدها كأنها دماء منسكبة إلى ذلك الحد! وغشي الناس ما غشيهم من الحزن، وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار، فطلبت منه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله: أشهد أن محمداً رسول الله، تنفست الصعداء، وأمعنت بالبكاء، وعاودتها سيرتها الأولى، فلما أفاقت قلت لها: ومم تخافين وتفزعين؟! قالت: إنه سيؤمر بي إلى دير حيث ينهلون من السياط دمي، ولست من ذلك أخاف إلا أن أخوف ما أخاف يومئذ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي، فقلت لها: يا فاطمة! أولا أدلك على خير من ذلك؟! قالت: أجل، قلت: إن حكم الإسلام على القلوب، فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين، وهنالك نظرت إلي نظرة ازدراء حتى خشيت على نفسي، ثم قالت: دون ذلك حز الأعناق، وتفصيل المفاصل.
يعني: فإنني إن أطعت نفسي عصاني لساني، وكان ضلالاً ما توصلت به أنا وأبوها ومن حولها، يقول: كان ذلك حتى أوفينا على القاهرة، فحيل دونها، ولم أعلم بعد ذلك شيئاًَ من أمر فاطمة؛ لأني لم أستطع أن أعلم، رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت بأولى سديدات الرأي الحر والإيمان الوثيق.
قد أطلنا في هذه القضية لما ترون من أهميتها البالغة، وإن شاء الله نفرد الكلام عن السفر إلى الخارج، ونريد ممن لهم تجارب في هذا الأمر أن ينصحوا لنا؛ نظراً لأن كثيراً من الناس تعشش في عقله بعض هذه الأفكار، وصاروا ينظرون إلى هذا الجانب حسناً، ويتغافلون عن كثير من الفساد والضياع والانهيار الذي يلقاه من يذهب إلى بلاد الكفار وهو غير مسلح بالإيمان.