وقد يَكُون قاصِر الفَهْم، ومن ثَمَّ يحصل الإِشْكال، أما مع العِلْم والفَهْم التام فإنَّه لا يُمْكِن أن يوجد إِشْكال في الشَّريعة، ولِذَلك أحيانًا تعرض لي مَسْأَلة وأجد فيها إِشْكالًا، ثم في زمن آخر تعرض لي نفس المَسْأَلة ولا أجد فيها إِشْكالًا؛ لأَن صفاء الذهن وأحوال الْإِنْسَان لها تأْثِير بالغ في فهم النُّصوص.
ولهذَا أنا أرى أنه يَنْبَغِي لطالب العِلْم أن يقيد المَسائِل النَّافعة الَّتِي تعرض له ويخشى أن ينساها ولا يعتمد علَى نفْسِه، ويقول: هذه الفَائِدة واضحة ولا حاجة لتقييدها؛ لأنه قد يأتي يوم من الأيام ما فتح الله عَليْك بالأمس غير موجودٍ الآن، إما لتخلف السَّبَب أو لِوُجود المانِع، والْإِنْسَان بشر تتقلب به الأَحْوال فيُمْكِن أن تعرض له مشكلة في بيته فيخرج إلى النَّاس غضبان ولا يتحمَّل أي كَلِمة من النَّاس، ويُمْكِن أن يرضى في بيته ويخرج إلى النَّاس ويتحمَّل كل كلام منهم، فالْإِنْسَان بشر في جميع أحواله يتقلب ويتغير.
فإن القُرْآن -ولله الحمد- مُبيِّن ومُبَيَّن أيضًا، ولكن الخفاء الَّذِي يحصل لِلإنْسان إنما هو من نفسه لا من حيث الأدلَّة وَذلِك لأحد أمرين كما تقدَّم، فمن أجل أحد هَذَيْنِ الْأَمْرين يحصل الخفاء في الأَحْكام الشَّرْعِيَّة، أما الآيات الَّتِي أنزلها الله فهي آيات مُبَيَّنة مُبَيِّنة لَيْسَ فيها إِشْكال.
وقد ذكر شيخ الإِسْلام رَحَمَه الله عِبارَة في (العقيدة الواسطية) قَالَ: "وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الحقِّ"(١)، هذه في الحَقيقَة عِبارَة تكتب بماء الذَّهب، وإن كَانَ الذَّهب لا يستعمل مدادًا لكن قصدي هذه عِبارَة ممتازة، من تدبر القُرْآن طالبًا الهُدَى منه تبين له طريق الحَقّ فلابُدَّ من هَذَيْنِ الْأَمْرين.
(١) العقيدة الواسطية: اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة (ص: ٧٤).