لا يقتاتون إلَّا من ورق الشَّجر إن تيسَّر لهم، ولا يأكلون اللَّحم إلَّا من خِفاف الإِبل المشويَّة إن تيسَّرت، هَؤُلَاءِ هم الَّذينَ عرفوا قدر هَذِهِ النِّعمة، والآن أصبحت اللحوم تلقى على المزابل من عدم أكلها.
فعلى كل حال: الأَمْن بعد الخَوْف أَشَدّ ظهورًا منه من الأَمْن على الأَمْن؛ لأنَّه لا يظهر في الحقيقَة استمرار الأَمْن بين قوم لم يذوقوا رهبة الخَوْف، هَذَا قد لا يُشعر به، والَّذي يشعر بظُهور نعمة الأَمْن إنما يَكُون ذاقها من بعد الخَوْف، ولا شَك أن الَّذينَ خوطبوا بهَذه الآيَة أولًا قد ذاقوا رهبة الخَوْف؛ لأنهم كانوا خائفين من أعدائهم الْكُفَّار لما لاقوه من الأَذَى الشَّديد القولي والفِعْلي، حَتَّى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من مكة إلَّا خائفًا متخفيًا عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَتَّى أظهره الله عَزَّ وَجلَّ فاتحًا منصورًا مؤزرًا فإذا تصور الْإِنْسَان إبدال الخَوْف بالأَمْن يجد أن للخوف أثرًا كبيرًا في نفْسِه.
الحمد لله، نعم أنجز الله وعده وقد قَالَ النَّبِيّ عَلِيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وهو على باب مكة عام الفتح معلنًا للتوحيد الَّذِي كَانَ يُحارب في مثل ذَلِك المكان، قَالَ:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أنجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"(١)، وقد تحقق - ولله الحمد - فكانت الأصنام في جوف الكَعْبة وحول الكَعْبة، وهَذَا يُنافي تمامًا شهادة أن لا إله إلَّا الله، وقد كَانَ المُسْلِمُونَ منهم من لا يُمَكَّن من البَيْت أو من الصَّلاة حوله، وإذا صلى حوله سُخر منه وأوذي، حَتَّى إن إمامهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كَانَ ساجدًا وكان حوله أَبو جهل ومَنْ معه من شرار قريش فقالوا: ألا رجل يأتي بسلا
(١) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم (١٢١٨)؛ عن جابر بن عبد الله.