للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المبحث الثاني: حكم إيمان المقلد]

لما قالت الماتريدية بوجوب النظر والاستدلال لمعرفة الله ذهب جمهورهم إلى أن من آمن ولم ينظر ويستدل يكون إيمانه صحيحا، ولكنه يأثم على تركه للنظر والاستدلال وذهب بعضهم إلى أنه يكون مقلدا ولا يأثم على تركه النظر والاستدلال.

قال الناصري: "قال الإمام سيف الحق أبو المعين: ثم المذهب أن المقلد الذي لا دليل معه مؤمن، وحكم الإسلام لازم له، وهو مطيع لله تعالى باعتقاده وسائر طاعاته، وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال وحكمه حكم غيره من فساق أهل الملة" (١).

وقال الزرنوجي: "فإن إيمان المقلد وإن كان صحيحا عندنا لكن يكون آثما بترك الاستدلال" (٢).

والصواب في هذه المسألة، هو أنه يكفي الجزم بما يطلب فيه الجزم، ولو عن طريق التقليد؛ فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: هذا مما يجب فيه الجزم، ولكن العامي لا يدرك ذلك بدليله، ومع ذلك نصحح إيمانه، ونقول إنه مؤمن وإن كان لا يدرك ذلك بدليله. والدليل على ذلك أن الله أحال على سؤال أهل العلم في مسألة من مسائل الدين التي يجب فيها الجزم، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: ٧]؛ وواضح أننا نسألهم لنأخذ بقولهم، ومعلوم أن الإيمان بأن الرسل رجال هو من العقيدة، ومع ذلك أحالنا الله فيه إلى أهل العلم ...

ثم إننا لو ألزمنا العامي بترك التقليد والتزام الأخذ بالاجتهاد، لألزمناه بما لا يطيق، وقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦]، وقال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون: ٦١ - ٦٢] (٣).

ومما يرد على زاعمي بطلان إيمان المقلد أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فتحوا أكثر بلاد العجم، وقبلوا إيمان عوامهم، كأجلاف العرب، وإن كان تحت السيف، أو تبعا لكبير منهم أسلم، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظر، ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجئوا أمره حتى ينظر" (٤).

قال النووي رحمه الله في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... ) (٥): " فيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك، وهو مؤمن من الموحدين، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في كونه من أهل القبلة وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين، وهو خطأ ظاهر؛ فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به صلى الله عليه وسلم ولم يشترط المعرفة بالدليل، فقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيحين يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي" (٦).


(١) النور اللامع: ل ٨، ٩.
(٢) تعليم المتعلم طريق التعلم: ١٣، وانظر: أصول الدين للبزدوي: ١٥٢، ١٥٣، المسايرة وحاشية قاسم عليهما: ٣٠٠ - ٣٠٢.
(٣) شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين: ٣١٠.
(٤) لوامع الأنوار: ١/ ٢٦٩.
(٥) رواه البخاري (٢٥)، ومسلم (٢٠).
(٦) شرح صحيح مسلم: ١/ ٢١٠ - ٢١١.

<<  <   >  >>